عندما ألقى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي خطابه الشهير قبل نحو شهر معلنا بداية الاحتفالات بالنصر على تنظيم «داعش» الارهابي بعد دحر التنظيم من معاقله في الموصل وعلى الحدود السورية العراقية، قلة من المتفائلين ربما صدقوا النبأ... العبادي وفي غمرة النشوة بما تحقق للقوات العراقية بعد حرب استنزاف دامية استمرت ثلاث سنوات حولت مساحات واسعة من أرض العراق إلى خراب ودمار شامل، لم ينتبه أو ربما تعمد عدم الانتباه وهو يفاخر «بنهاية المهمة»، إلى مسألة معقدة وهي مرتبطة بما كان عليه العراق قبل ظهور «الدواعش» وما أصبح عليه هذا البلد بعد طي هذه الصفحة المظلمة... أو هذا على الاقل ما يريد المسؤولون العراقيون الترويج له والحال أن تواتر الهجمات والتفجيرات الانتحارية في العراق ما انفك يؤكد أن هذا التنظيم الارهابي لا يزال يشكل خطرا قائما في العراق وخارجه، وأنه حتى وإن تراجع فإن فلوله وخلاياه المتخفية - التي تمكنت من التسلل بين افواج اللاجئين - قد تكون تمكنت من تحديد مواقع جديدة لها في انتظار اعادة تنظيم خيوط التواصل مع عناصرها. وما حدث بداية هذا الاسبوع من تفجيرات انتحارية من شأنه أن يدفع الى اعادة قراءة نتائج الحملة العسكرية على التنظيم.. والامر ذاته ينسحب على المشهد في سوريا التي تمكنت بدورها من التخلص من الشبكات الارهابية التي يديرها التنظيم في المواقع الخاضعة للجيش السوري... سوريا والحضور العسكري الأمريكي ولا شك أن ما تضمنه التقرير البريطاني الذي نشره أمس مركز «أي ايتش آس» من تحذيرات بشأن احتمال استهداف التنظيم كأس العالم المرتقبة هذا الصيف في روسيا، ما يثير اكثر من نقطة استفهام حول الاحتفالات الكبرى بنهاية تنظيم «داعش» الارهابي وزوال الخطر الذي يشكله.. وهو أمر من شأنه أيضا أن يدفع الى التوقف عند تصريحات وزير الخارجية الامريكي تيلرسون بالأمس والذي برر الحضور العسكري الامريكي في سوريا بضمان عدم عودة تنظيم «داعش» الى هذا البلد.. وليس من الواضح صراحة من يخدم مصلحة من، ومن يسبق وجود ماذا.. فهل كان لهذا التنظيم الارهابي وغيره وجود في العراق قبل الاجتياح العسكري لهذا البلد بقيادة بلير بوش في 2003؟.. والحال أن الخطر الارهابي تسلل الى العراق بعد فشل التدخل الامريكي في أفغانستان وتسلل فلول «القاعدة» الى دول الشرق الاوسط وحتى الى شمال افريقيا ومنها الى دول جنوب الصحراء ليفرز خلاياه الارهابية تحت مسميات متعددة ولكنها تتفق في أهدافها المشتركة في حرق الاخضر واليابس وتدمير العقول والعودة بالشعوب الى عصور الجاهلية والظلامية... المصيبة المرتبطة بتنظيم «داعش» لا تتوقف عند تحديد مخاطر المتسللين والعائدين الى بلدانهم بعد تضييق الخناق على التنظيم وتجفيف منابعه المالية والبشرية، لأن في العمل الاستخباراتي الاستباقي ما يمكن ان يساعد على رصد وكشف تلك العناصر وفلولها ومنعها من تنفيذ مخططاتها الارهابية... صحيح أن هذه الخطوات الاستباقية قد لا تكون في الموعد دوما وقد تفشل في رصد بعض تلك التحركات الارهابية التي سيدفع دوما ثمنها الأبرياء، ولكن المصيبة الأخرى مرتبطة اليوم بالمشهد الراهن وبمرحلة ما بعد «داعش» كما يروج لها في الاوساط السياسية والأمنية، وهي مرحلة ليست محسومة. والحديث عن نهاية التنظيم فيه الكثير من المبالغة وإخفاء الحقائق والاستخفاف بالعقول لعدة أسباب، لعل أهمها أنه لم يبادر أي طرف من الاطراف المعنية بخطر «الدواعش «الى الكشف جديا عن الحقائق المرتبطة بظهور التنظيم ونشأته وانتشاره، ولا أيضا تحديد أسباب سيطرته على مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق في صيف 2014 ودوافع هروب قوات الجيش العراقي وتخلي عناصره عن بدلاتهم العسكرية وأسلحتهم، ولا عن مصدر الأوامر والتعليمات بالانسحاب من المدينة لتسقط في قبضة الارهابيين الذين سيرهبون الاهالي ويمارسون في حقهم كل انواع التعذيب النفسي والجسدي وسيستعبدون نساءهم ويستبيحون ماجداتهم وينتهكون كرامة الجميع ويستحوذون على ممتلكاتهم ويعمدون الى تحويل حياتهم الى جحيم.. وهذا ليس في الحقيقة سوى غيض من فيض وربما وجب الانتظار سنوات قبل جمع ورصد شهادات الضحايا وعائلاتهم عما اقترفه الارهابيون في حق الشعوب من دمار وخراب.. ولن يكون السيناريو في الرقة أقل فظاعة مما شهدته الموصل... غموض خيارات السياسة الأمريكية والحقيقة أنه عندما يؤكد وزير الخارجية الامريكي تيلرسون أن إدارة ترامب تريد الانخراط أكثر في سوريا لضمان عدم عودة «داعش» الارهابي مع تزايد التهديد الإيراني وتقهقر تنظيم «داعش» الإرهابي، فإن ذلك لا يمكن الا أن يفاقم الغموض بشأن خيارات السياسة الامريكية في المنطقة وهي التي لم تمنع من قبل ظهور وانتشار الخطر الارهابي العابر للحدود قبل أن يؤول الوضع في العراقوسوريا الى ما آل اليه من ضعف وانهيار... من الواضح أن الوجود العسكري الامريكي في سوريا بعد العراق أمر مفروغ منه، وهو حضور غير محدد في المكان او الزمان.. تيلرسون يقول ان الوجود العسكري لبلاده في سوريا أساسي لصالح الامن القومي الأمريكي... أما اعادة الاعمار في سوريا فتلك مسألة غير مطروحة بالنسبة له طالما بقي الاسد في السلطة.. وهذه نقطة اخرى تعكس انعدام الوضوح والرؤية في التوجهات الامريكية.. قبل شهر وخلال اجتماعات وزراء خارجية الحلف الاطلسي في بروكسيل سبق لتيلرسون بعد تداول إشاعة انسحابه من إدارة ترامب التصريح - وهذا موثق - بأن الاولوية ليست للقضاء على نظام الاسد وأن مصير الرئيس السوري يحدده السوريون... الشيء الوحيد الواضح في المشهد اليوم أن تقديرات احتياجات سوريا لإعادة الاعمار تناهز 200 مليار دولار ولكن واشنطن غير معنية بذلك، بل انها تعلن أنها ستثني اوروبا عن الانخراط في هذا المجال.. تركيا والأكراد وواشنطن يصر تيلرسون على ان بلاده لا تريد تكرار نفس الاخطاء التي ارتكبتها في العراق في سوريا، وهذا ايضا ليس بالأمر المحسوم.. فتوجه واشنطن إلى تشكيل وتدريب آلاف من القوات الكردية على الحدود السورية التركية اشارة بإصرار ادارة ترامب، ليس على حصر الازمة، بل على امتدادها.. وربما تكون واشنطن اعلنت بهذه الخطوة نواياها ازاء تركيا التي قد تكون المحطة القادمة المعنية بالفوضى الخلاقة. وقد تكون انقرة علقت الكثير من الآمال على الحلف الاطلسي باعتبارها عضو فيه، لحمايتها عندما يقتضي الامر باعتبار البند الخاص للناتو الذي يقر بأن الاعتداء على أحد اعضائه بمثابة الاعتداء على كل الاعضاء.. تركيا لا تنظر اليوم بعين الارتياح لانتشار ثلاثين ألفا من القوات الكردية بتمويل وتدريب امريكي على حدودها، وقد بدأت تجند قواتها تحسبا لأي مواجهة عسكرية. من الواضح ان اردوغان - الذي لم يتوان عن اعلان دعمه لورقة الاسلام السياسي وللمشروع الاخواني في المنطقة، وربما لم يتوقع مع انطلاق المواجهات في سوريا ان تتطور الاحداث في الجوار السوري وان تتواصل الحرب طوال سبع سنوات وتتناثر حممها على الجوار - هو اليوم امام خيارات مصيرية تفرض عليه مراجعة خياراته السابقة في المشهد السوري... الواقعية اليوم تؤكد ان حال دول المنطقة وشعوبها قبل انتشار «الدواعش» كان واقعا في قيود الدكتاتورية سواء تحت جبة العسكر او تحت جبة الملالي كما تحت جبة الجهل والتخلف، وان اغلب الشعوب غرقت بعد ذلك في مخاطر الطائفية التي عصفت بما بقي منها وسهلت مهمة «الدواعش» باختلاف شعاراتها... النظام العربي اليوم يعاني من هشاشة تجاوزت كل التوقعات وهو نظام يترنح على وقع الصراعات التي ترفض ان تنتهي خدمة لمشاريع لا اهداف لها غير التدمير الذاتي.. وحتى إن كتب للصراعات والحروب الدموية المستمرة في اليمن ان تنتهي اليوم، ولبقية حروب الاستنزاف في العراق وليبيا والسودان وفي سيناء أن تتوقف اللحظة، فان الخروج من النفق الى النور لن يكون بالأمر الهين، وقد لا يكون بالإمكان اعادة اعمار ما تهدم وإعادة بناء ما دمر واعادة توطين من هُجّروا وعلاج من اصيبوا بعاهات وتعليم الجيل الذي ولد على وقع الحرب، سيتطلب تضحيات جيلين متعاقبين على الأقل... وهذا أيضا لن يتم قبل استئصال العقليات الفاشلة الموبوءة بعدائها للأوطان والشعوب...