نعود مرة أخرى لطرح مسألة تهم الاصلاح التربوي المرتقب وهي تتعلق هذه المرة بتسيير المدارس والمعاهد والتصرف فيها في ظل التغيرات التي يعرفها الفضاء التربوي في العالم في هذا المجال. وحرصا على تأكيد أهمية هذا الفضاء بصفته الهيكل التربوي والبيداغوجي الأساسي الذي يكوَن الناشئة ويضمن للمجتمع خريجين قادرين على بناء وطنهم، فمن المفيد اليوم الخروج بهذا الفضاء من كونه مدرسة تطبق التعليمات فحسب ليصبح مؤسسة منتمية إلى المنظومة لكنها مسؤولة فاعلة وقائمة بذاتها في إطار حوكمة جديدة للمنظومة التربوية. مسؤولية تسيير المدرسة إنه رغم الدور الهام الذي لعبته المدرسة التونسية في شكلها الحالي وعلى مدى العقود الماضية خاصة من ناحية توفير الموارد البشرية المؤهلة والماهرة تلبية لحاجيات المجتمع التونسي في هذا الإطار ودفع التنمية فيه، فإن هذا الدور تضاءل على مدى السنين الماضية لأسباب عديدة ليس هذا مجال الخوض فيها لكن نذكر هنا أحدها والمتعلق بمسؤولية تسيير المدارس والمعاهد والتصرف فيها والذي يتطلب اليوم مراجعة. لم تكن الفضاءات التعليمية في تونس منذ الاستقلال هيكلا مؤسساتيا يتصرف مديروها في مشاريع تربوية محلية خاصة بها دون الخروج عن نطاق السياسة التربوية العامة للبلاد لأن القوانين والتشريعات التي تخضع لها المدرسة في نطاق تطبيق مبدأ المساواة هي قوانين موحدة تطبق في شمال البلاد كما في جنوبها وفي غربها كما في شرقها وفي المناطق الريفية كما في المناطق الحضرية دون مراعاة الفروقات الحادة بين الجهات وأحيانا بين المؤسسات في نفس الجهة ولا بين المتعلمين في إطار مبدإ تكافؤ الفرص كما لا تسمح تلك القوانين للمدارس ولا للمعاهد بحرية التصرف في نوعية عديد الأنشطة التي تجري داخلها أو اتخاذ ما يلزم عندما تعترضها صعوبات. فالمدرسة التونسية اليوم تضطلع بالدور الذي تحدده لها المنظومة التربوية دون اجتهاد يذكر من طرف مسيريها ما عدا قلة من المجتهدين لا ترقى إلى مستوى استقلالية المدرسة. دور رئيس المؤسسة التربوية إنه من بين التحديات التي ستساهم في تطوير أداء المدرسة التونسية أن تنخرط المنظومة التربوية في السياق العالمي الحديث بتطبيق نمط جديد من التسيير يعتبر المدرسة مؤسسة متكاملة ولمديرها كامل الأهلية في تسييرها لذلك تطلق عليه تسمية رئيس المؤسسة. هذه النقطة لم يتم الاشارة إليها في مشاريع الاصلاح السابقة وعند الاشارة إلى مقترحات معالجة التفاوت بين الجهات وغياب مبدإ تكافؤ الفرص تم التركيز فقط على الناحية البيداغوجية والتربوية والبنية التحتية والموارد البشرية والامكانات المادية وتمت الدعوة فقط إلى تمكين الجهات من استقلالية في التصرف وليس إلى تمكين المؤسسات نفسها من تلك الاستقلالية. فماذا لو مكنا رئيس المؤسسة (مدير المدرسة أو المعهد) من الاستقلالية في التصرف في الموارد المالية (من حيث توفيرها وصرفها) وإعطائه الحرية في طرح مبادرات تخدم مصلحة مؤسسته تربويا أو اجتماعيا أو تعليميا أو تكنولوجيا.. والسماح له في اتخاذ المبادرات التي تطور من أداء مدرسيه والرفع من نتائج تلاميذه أو المبادرات التي تخفض من نسب الفشل المدرسي في مؤسسته أو تعالج قضايا كالعنف أو التطرف أو التسيب أو استهلاك الممنوعات.. بالتعاون مع مجلس المدرسة ومع أطراف خارجية كالمجتمع المدني والشخصيات العامة المحلية أو مع المختصين في علم النفس أو علم الاجتماع.. وذلك دون اللجوء إلى طلب موافقات إدارية. وماذا لو أعطيت لرئيس المؤسسة الحرية في التصرف في التوقيت المدرسي اليومي الخاص بتلاميذه آخذا بعين الاعتبار المحيط الذي توجد فيه المدرسة وظروف التلاميذ ومشاكل النقل المدرسي التلمذي.. وبالمقابل تحدد قواعد اللعبة بتوضيح السياسة التربوية والتوجهات العامة للمنظومة التربوية التي على رئيس المؤسسة الالتزام بها ليتصرف في مؤسسته المدرسية ويسيرها وفقها مع وضع أسس لتركيز ثقافة الشفافية والحوكمة الرشيدة والمساءلة والتدقيق والمنافسة بين المؤسسات بحيث يخضع كل رئيس مؤسسة لتقييم أدائه في فترة توليه المسؤولية ومدى نجاحه في قيادتها من خلال معايير مضبوطة تحددها سلطة الاشراف. وبموجبها يتم التجديد له من عدمه في قيادة المؤسسة من جديد. إن مثل هذا التوجه سيساهم حتما في نجاعة المؤسسة التربوية وسيعيد لها الاعتبار باعتبارها الخلية الأساسية للفعل التربوي وسيحرك باب التنافس بين المؤسسات التربوية بحثا عن التميز. * باحث وخبير تربوي