نواصل اليوم نشر الجزء الثاني من دراسة الدكتور أكرم بلحاج رحومة في جزئها الثاني بعد أم نشرنا أمس الجزء الأول الخاص بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي بات خيارا استراتيجيا في تونس وعدد الكاتب مكونات هذا الاقتصاد وأنشطته ومعاييره... قدرة على مجابهة الأزمات تتطلب مجابه الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وضع آليات جديدة تتماشى والتحولات السياسية والاجتماعية. إن السّمة المميزة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني تتمثل لا فقط في قدرته على الصمود أمام الصعوبات بل إنه ينتعش زمن الأزمات إذا ما أُدرج طبعا ضمن سياسة وطنية. ذلك أن هذا القطاع يتدخّل ليستثمر فرص التشغيل والتنمية التي يعجز أو يتخلى عنها القطاعان العام والخاص. إن كل تراجع للقطاعين العام والخاص يمنح الاقتصاد الاجتماعي والتضامني فرصة للاستثمار. هذا، وتخضع مؤسسة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني إلى طرق تصرف مالي يجعلها توفر المؤونة اللازمة لمقاومة الهزات الاقتصادية والمخاطر المالية ومن هذه القواعد: التوزيع المحدود للمرابيح، ضرورة إعادة استثمار الجزء الأكبر من المرابيح بهدف الحفاظ على استمرارية المؤسسة أو تطويرها ووضع احتياطات مالية وجوبية غير قابلة للقسمة. طريقة أخرى لإدارة الشأن العام ومحفز على الإبداع الاجتماعي يمكن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من إدارة الحاجيات الاجتماعية بشكل مُتميّز عن الأنماط الكلاسيكية إذ يرتكز على مجموعة من المبادئ ترتقي بالوعي الجمعي من دائرة التواكل والإعانة الاجتماعية إلى مرتبة روح المسؤولية والمبادرة الجماعية. إن هذا النمط من الاقتصاد هو اقتصاد المواطنة إذ يمكّن المواطن من الاستثمار في كلّ المجالات ومن الإسهام بصفة ديمقراطيّة في إحداث نمو مستدام وفي تقاسم عادل للازدهار بين الجهات والفئات. فعوض أن تبقى القوى البشرية قابعة في دائرة الانتظار، تبادر لتمسك زمام الأمور بيدها وتحدث وحدات اقتصادية ديمقراطيّة ذات فائدة اجتماعيّة تستجيب لحاجياتها وتلبي رغبتها في الرفاه الاجتماعي. إنه اقتصاد واعد بامتياز إذ يعتبر «طريقة أخرى في بعث المشاريع» تقوم على فكرة الإبداع الاجتماعي (l'innovation sociale) واستثمار مكامن التنمية الترابية عبر مبادرات جماعيّة وبطرق تسيير ديمقراطيّة تحقيقا لمنفعة اجتماعية. ومن هذا المنطلق، فإن الدولة باعتبارها قوّامة على النظام العام والتخطيط الاستراتيجي للسياسات وتنفيذها، مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بتحرير فرص التشغيل والتنمية التي يكتنزها هذا القطاع وذلك بتركيز دعائمه وتوفير متطلبات نموّه والسهر في الوقت ذاته على مراقبة الفاعلين فيه وفرض احترام القانون. إن النوايا الحسنة لا تصنع السياسات وإن الاعتراف الرسمي بالقطاع يجب أن يقترن لا محالة بتنفيذ سياسة جامعة تنأى عن التدخلات المفككة وتحرره من دوره الهامشي حتى يساهم في معالجة مشاكل البطالة والفقر والإقصاء الاجتماعي والتفاوت بين الجهات كرافد ثالث للتنمية. قطاع ثري من حيث تنوع المؤسسات الناشطة يتكون نسيج الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس أساسا من المؤسسات التالية: التعاضديات وتضم 234 شركة تعاونية للخدمات الفلاحية و18 وحدة تعاضدية للإنتاج الفلاحي الجمعيات: حوالي 21 ألف جمعية خاضعة لمرسوم 2011 و2900 مجمع للتنمية في قطاع الفلاحة والصيد البحري و280 جمعية للتمويل الصغير منها 180 جمعية ناشطة. التعاونيات: 48 جمعيّة تعاونية خاضعة لأمر 1954 وشركاتان للتأمين ذات صبغة تعاونية وهما تعاونية التأمين للتعليم والصندوق التونسي للتأمين التعاوني الفلاحي وتساهمان ب23.5 % من اليد العاملة في سوق التأمين وتديران 9.8 % من مجموع رأس المال في قطاع التأمين. وزن اقتصادي منخفض لا يزال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس مهمّشا حيث أنه لا يستقطب سوى 0.6 % من السكان المشتغلين ولا تتعدّى مساهمته في الناتج المحلّي الإجمالي 1 %، مع ضعف نسبة انخراط الفلاحين مثلا في الشركات التعاونية والتي لم تتجاوز 4 % . التحدّيات الكبرى هي تحدّيات مؤسساتية وقانونيّة لا يوجد أي نص قانوني مُوحّد وجامع لمختلف مكوّنات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. فالنصوص القانونيّة المتعلّقة بالتعاضديات والجمعيّات والتعاونيات كانت قد وُضعت قبل ظهور فكرة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. لذلك فهي لا تنصهر في إطار منظومة قانونية منسجمة ولا تستجيب لجميع مقومات الإقتصاد الإجتماعي والتضامني. كما يفتقر القطاع للركائز الثلاث الأخرى الضرورية لنشأته: إطار مؤسساتي ومنظومة إحصائيّة ومنظومة تمويل. إن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كالجسم المفكك والمشتت. فالأرقام الرسمية غير واضحة والنصوص القانونيّة والإدارات المُؤطرة والمبادرات الوزاريّة وتدخّلات المنظّمات الدوليّة لازالت غير منسجمة. يفتقر هذا القطاع لرؤية واضحة ويعوزه إحكام التنسيق بين متدخلين كل يقرّر بمعزل عن الآخر. وتعتبر بعض الوزارات أن اختصاص إدارة ملفات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يعود لها بالنظر لوحدها أو أنها تمثل الفاعل المحوري في هذا القطاع. كما لا تستجيب أغلب مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لإحدى المعايير الضرورية وهي الاستقلالية تجاه السلط العموميّة لا سيما تلك الناشطة في المجال الفلاحي. ونظرا لخضوعها للتسيير المزدوج من قبل المنخرطين والإدارة ذاتها، فإنها تمثل كائنات قانونية هجينة. فلا هي بالمؤسسات العمومية الصرفة ولا هي بالمؤسسات الخاصة. )يتبع( (*) أستاذ جامعي في القانون العام خبير في التخطيط الاستراتيجي للسياسات العمومية