صمت مريب وجمود سياسي يدفع التونسيين في مجالسهم الخاصة والعامة الى القول بان «البلاد بلاش المالي» عبارة تلخص المشهد الراهن في البلاد والمخاوف بشأن الحاضر والمستقبل أمام تفاقم الغموض الحاصل والركود الذي يخيم على مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... مؤشرات تعزز القناعة بأن السلم الاجتماعي بات على المحك أمام استفحال الازمة بين الحكومة وبين اتحاد الشغل الذي كان وإلى وقت قريب الحزام السياسي الوحيد المتبقي حول حكومة يوسف الشاهد التي فقدت تباعا دعم الاحزاب والمنظمات وظلت تسبح وحدها في مواجهة الازمات والتحديات التي عصفت بها وغيبتها عن المشهد لتظل حكومة يمكن وصفها بأنها مهمشة... وكأن الاحزاب الائتلافية بما في ذلك الاحزاب الكبرى المكونة لها تنتظر اللحظة التي يتم إطلاق رصاصة الرحمة عليها والاعلان عن حكومة يوسف الشاهد 3 أو ربما حكومة ما بعد يوسف الشاهد... لسنا نريد الانسياق في التخمينات والافتراضات، فواقع البلاد يفترض حدا أدنى من الواقعية في مواجهة مشهد غير مسبوق، وقد لا يكون من المبالغة في شيء الإقرار بأنه مشهد يتجه بثبات الى الانهيار اذا استمر الوضع على حاله من تراجع للاستثمارات وارتفاع للبطالة وانهيار الدينار وتقلص الاحتياطي من العملة الصعبة من غياب للتنمية وتفاقم للمديونية وهنا أصل الداء وعلة العلل والخوف تداعيات عجز البلاد عن تسديد ديونها الخارجية... وربما آن الاوان لإعادة النظر في عديد الخيارات التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة منذ أن استجابت لشروط الهيات والمنظمات المالية الدولية وانساقت بذلك في سياسة الهروب الى الامام حتى أنه لم يعد بإمكانها التوقف لتأمل ما بلغه حجم ومخاطر الديون التي أغرقتها والتي تدفع بها للاستدانة أكثر فأكثر.. الكثيرون يقارنون وضع تونس اليوم بما بلغته اليونان خلال أزمتها من انهيار ولكن ينسى الكثيرون أن اليونان جزء من الاتحاد الاوروبي وأنه مهما أصاب دول الاتحاد الاوروبي من أزمات فإنها لن تتخلى عن أحد أعضائها وهذا ما لا يتوفر لتونس لأنها جزء من العالم العربي والافريقي والمغاربي الغارق في أزماته وانقساماته وصراعاته بما يعني أن تونس لا يمكنها في كل الحالات الا التعويل على امكانياتها وقدراتها البشرية والطبيعية ... وهي حقيقة يصعب استساغتها ولكن قناعتنا أنها الطريق الوحيد لخلاص البلاد وتجنب مأساة مؤجلة.. لا أحد بإمكانه أن ينكر تداعيات الخيبات المتتالية وصراعات النخب السياسية التي هيمنت عليها عقلية الغنيمة والحسابات الانتخابية القريبة والبعيدة بما جعل أزمة الثقة الاسوأ بين الطبقة الحاكمة وبين الرأي العام الذي يواصل اكتشاف الوجه الحقيقي للأحزاب والزعامات المتنافسة على السلطة.. نقول هذا الكلام وفي البال قصة ماليزيا بعد الازمة التي عصفت بالدول الاسيوية في تسعينات القرن الماضي.. مهاتير محمد الذي وصف بالعاقل في زمن الجنون اختار مسارا مغايرا لإنقاذ بلاده غير ما سعت لفرضه القوى الكبرى وصندوق النقد الدولي... فقد انتبه مهاتير محمد حكيم العيون الذي ترك الطب الى مجال السياسة الأرحب لعلاج اقتصاد بلد شارف على الانهيار الى أن توجهات صندوق النقد الدولي ليست دوما نزيهة... وقد ظل يذكر بمواقف مدير الصندوق في حينه ميشال كامديسوس وهو يشكر جهود بلاده قبل الازمة الاسيوية ويمدح خياراتها الناجحة ليتهمها بعد الازمة بأنها تفتقر للحوكمة الرشيدة.. راهن مهاتير على تغيير العقول وانتقد بشدة كسل مواطنيه وافتقادهم لقيم العمل والاجتهاد والرضا بالتخلف وتعرض لانتقادات واتهامات كثيرة من السياسيين في بلد الصراعات والطوائف العرقية المتعددة... ولكن مهاتير محمد اعتبر «أنه لا يجب تقبل أية أفكار لمجرد أنها صادرة من الغرب»، وبعد دراسة عميقة للمشهد في ماليزيا طبق برنامجه لإنقاذ البلاد وجعل من معركة التعليم معركة مصيرية لإصلاح المؤسسة التربوية واعادة للتعليم المهني مكانته وفرضت الجامعة الماليزية مكانها بين قائمة الخمسمائة أفضل جامعة في العالم.. لسنا نريد استعراض المشهد الماليزي ولكن يحسب لمهاتير محمد عندما أعلن انسحابه من المشهد السياسي أنه حول ماليزيا من «فأر الى نمر اقتصادي» ومن بلد يعيش على زراعة الأرز الى بلد صناعي.. وقد كشف رئيس وزراء ماليزيا الأسبق لاحقا أن صندوق النقد الدولي قدم لهم نصائح مضللة.. وأن ماليزيا اكتشفت أن نصائح صندوق النقد الدولي ليست كلها حقيقية خالصة وبعضها مضللة فصاحب المال على حد تعبيره لا يهمه نظام مصرفي أو إسلامي وأن كل ما يهمه أن يعود عليه بربح سواء بنظام إسلامي أو أي نظام آخر.. طبعا ندرك جيدا أن لكل بلد خصوصياته ولكل بلد امكانياته وخياراته وتوجهاته. وما يمكن أن يصلح حال ماليزيا قد لا يكون كذلك بالنسبة لتونس... ولكن يبقى من المهم الانتباه الى وصايا المؤسسات المالية الدولية، فمسؤولوها ليسوا معنيين بمآسي الشعوب ومعاناتهم، فهذه ليست مشكلتهم... ولكن مشكلتنا أن نعرف ما إذا كان بين النخب السياسية في بلادنا من يضاهي مهاتير محمد في صراحته واستباقه للخطر. فتونس قد بلغ منها الانهاك مبلغا والبلاد على مشارف مأساة قد يكون بالإمكان تفاديها حتى الآن..