أربع وتسعون ألف كفاءة تونسية غادرت البلاد في الست سنوات المنقضية بمعدل سبع وثلاثين كفاءة يوميا.. دفعة من أرقام كثيرة وردت في آخر تقرير لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الصادر أواخر السنة المنقضية الذي أكد أن غالبية الذين هجروا ارض الوطن نحو أوروبا، أمريكا، كندا ودول الخليج هم في الغالب باحثون ورجال أعمال وأطباء وأكاديميون وأساتذة ومهندسون وإداريون وبذلك تكون تونس قد فرطت في أهم مقوّمات تنميتها أي العنصر البشري وتحديدا الكفاءات التي أهّلها المجتمع لسنوات طويلة وتكبّد فيها الكثير ويكفي هنا الاستشهاد بأن تعليم طالب الطب يكلف تونس ما يعادل المائة مليون سنويا والنتيجة هجرة البعض إلى الخارج مثلما حدث مع الخمسة وعشرين طبيبا مقيما من بين الثلاثين ممن اختصوا في الأشعة في دفعة نوفمبر 2017 والذين رحلوا نحو أوروبا وبدل أن يجني البلد ثمار مجهودهم تكون البلدان المستضيفة أكثر المستفيدين سيما وان الكثير من هؤلاء المهاجرين وفي ظل المردود المادي المغري تنتفي لديهم فكرة العودة إلى الوطن الأم بعد الحصول على جنسية البلد حيث يقيمون . الواقع أن لا لوم على تلك الخبرات التي اختارت الرحيل بحثا عن ظروف مادية أحسن ومناخ عمل أفضل في ظل انعدام الفرص وانسداد الأفق وعدم استقرار الوضعين السياسي والاجتماعي في تونس لكن اللوم يقع على الدولة التي لم تهيئ لتلك الكفاءات ما يشجعها على البقاء في ارض الوطن بل نراها تقف موقف المتفرّج وكأنه لا يعنيها – على سبيل المثال- تصحّر الجامعة التونسية من كفاءاتها بعد أن اعترف اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين أن ثلث الجامعيين رحلوا عن تونس بعد الثورة وان هجرتهم أفضت إلى غلق العديد من المخابر ووحدات البحوث . نفس الشأن بالنسبة للكثير من المهندسين الذين وأمام غياب مواطن الشغل أجبروا على الهجرة أملا في تحسين وضعهم المادي وتدعيم خبراتهم المهنية لتفقد بذلك تونس شريحة هامة من الخبرات والتي كان من المفروض أن تحتضنهم وتيسّر لهم سبل التدريب والتطوير المهني وتساعدهم على تصدير تجاربهم ومنتجاتهم إلى الخارج لنجدها اليوم تصدّر المهندسين أنفسهم فاسحة المجال أمام البلدان المستضيفة لاستقطابهم والانتفاع بخبراتهم العلمية . إن الأوطان لا تبنى ولا تزدهر إلا بسواعد وعقول أبنائها وبناتها الملمين بأصناف العلوم والمعارف والبحوث، لكن يبدو أن للمسؤولين في وطننا رأي آخر فعدم قدرتهم على مواجهة المشاكل بحلول فعلية وجهلهم بأن الإصلاح الحقيقي يتطلب إرادة أكثر من التي نراها اليوم عندهم جعلا تونس بلدا طاردا للكفاءات يحتل المرتبة الثانية عربيا خلف سوريا في هجرة الأدمغة والكفاءات وجعلا خيرة أبنائنا يرحلون بعد أن سُدت أمامهم آفاق المستقبل وفقدوا الأمل في تحسن الوضع . في أوت الماضي وخلال ندوة «تونس 2030.. البحث والتجديد طريقنا نحو التكنولوجيا الحديثة والقطاعات الواعدة أي دور للكفاءات التونسية بالخارج؟» حذّر رئيس الحكومة يوسف الشاهد من مخاطر هجرة الكفاءات نحو الخارج واعدا بإستراتيجية متكاملة لاستقطابها والاستفادة من خبرتها لكن لا تحذيره ولا وعوده أوقفا نزيفا مستمرا ولن ينتهي.