تتواصل خلال هذا الشهر المرحلة الثانية من الدورة السنوية الخامسة والثلاثين للتكوين العملي في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ينظمها معهد الدفاع الوطني بالتعاون مع المركز الأمريكي للدراسات الإستراتيجية للشرق الأدنى وجنوب آسيا. وهذه المؤسسة تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية ومهمتها حسب ما جاء في تعريفها الرسمي هي «دعم الأمن في منطقة الشرق الأدنى وجنوب آسيا» وذلك عبر تصميم وتنفيذ برامج تعاون إقليمية تعتمد على تقديم التكوين الأكاديمي للمتربصين من مدنيين وعسكريين. ويسعى المركز إلى استمرارية الحوار مع كل المشاركين حتى بعد انتهاء الدورة مما يمكن من بناء شراكة على المدى الطويل في المجالات الأمنية والدفاعية. وجدير بالذكر أن هذه الدورة التكوينية هي حلقة جديدة في سلسلة متعددة الجوانب للتعاون العسكري بين البلدين الآخذ في النمو بنسق تصاعدي في السنوات الأخيرة. حيث تعتمد كل دورة موضوعا محددا للبحث والتحليل العلمي يتم تحديده من طرف وزارة الدفاع الوطني التونسية التي تتولى مسؤولية ضبط الحاجيات والاختيارات الخاصة بالسياسة الدفاعية وتتولى تنظيم التكوين وقبول المتربصين من عسكريين وأمنيين ومدنيين عبر معهد الدفاع الوطني. وعلى سبيل المثال فقد كان موضوع البحث لدورة السنة الفارطة تحديد العقيدة القتالية للقوات المسلحة والشروع في إحداث كتاب أبيض حول السياسة الدفاعية لأول مرة في تاريخ تونس. أما هذه السنة فقد قررت مصالح وزارة الدفاع الوطني أن يكون موضوع البحث هو «دعم الابتكار وإحداث صناعة عسكرية تونسية كمحرك للاقتصاد الوطني». وقد بدأ العمل على هذا المشروع الطموح منذ مدة حيث وفر الجانب الأمريكي خبرته العلمية والعملية لمساندة البرنامج وبدأ فعلا في تكوين الإطارات المشاركين في دورة هذه السنة عبر مجموعة لقاءات وندوات تحضيرية في تونس كانت فرصة للمتربصين للتعرف على آخر المستجدات في المجال الدفاعي على المستوى الإقليمي حيث تلت اللقاءات التحضيرية ورشة عمل دولية نظمتها في تونس نفس المؤسسة بالتعاون مع القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي حول عودة المقاتلين المتطرفين من بؤر التوتر في دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل (جنوب الصحراء) وحضرتها إلى جانب تونس كل من الجزائر والمغرب ومصر وليبيا وكل دول الساحل الإفريقي. أما بالنسبة للمرحلة الثانية التي جرت في العاصمة الأمريكيةواشنطن فقد تضمنت عدة محاضرات ألقاها مختصون أمريكيون من وزارتي الدفاع والخارجية إلى جانب السفير التونسيبواشنطن الذي ألقى محاضرة حول تطور العلاقات التونسيةالأمريكية كما تضمنت هذه المرحلة كذلك زيارات ميدانية للمتربصين في الدورة اطلعوا خلالها على طريقة عمل المنظومة التنفيذية والتشريعية الأمريكية والتنسيق في اتخاذ القرارات بين مختلف المصالح مثل وزارات الدفاع والخارجية ومراقبة الكونغرس الأمريكي للقوات المسلحة ومشاركة نوابه النشيطة في صياغة القوانين المتعلقة بالأمن القومي والجيش الأمريكي. تأتي هذه التطورات في خضم تسارع الأحداث على المستويين الإقليمي والدولي حيث لا تزال الحرب الأهلية مستعرة في كل من سوريا واليمن والخطر الكبير الذي تشكله الجماعات المتطرفة الناشطة هناك حتى بعد هزيمة تنظيم الدولة بالإضافة إلى التطورات الميدانية الأخيرة المتمثلة في الاشتباكات المباشرة بين الحرس الثوري الإيراني والجيش الإسرائيلي والتلويح الأمريكي بشن هجوم عسكري بالتعاون مع القوات الفرنسية والبريطانية وهو الأمر الذي أدى كما كان متوقعا إلى تصعيد عسكري مع روسيا رغم وجود مؤشرات على رغبة أمريكية في الانسحاب من المنطقة وهو ما يؤكده صغر حجم الغارة الجوية التي تمت فجر يوم السبت الفارط. كما أخذت الأحداث في ليبيا منعرجا جديدا بعد غياب الفريق خليفة حفتر عن الساحة السياسية والأنباء المتضاربة حول تدهور حالته الصحية إلى جانب التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة في مسرح العمليات وتنفيذ عمليات هجوم جوي باستخدام طائرات مسيرة دون طيار استهدفت قياديين في المجموعات المصنفة إرهابية مثل «القاعدة» و»داعش» متمركزة في منطقة أوباري والذي تزامن مع تكثيف النشاط الميداني لعدة جيوش أوروبية في ليبيا سواء بالطلعات الجوية الاستطلاعية اليومية أو الدوريات البحرية خصوصا الوجود البري الذي بقي يلفه التكتم إلى حد بعيد بالإضافة إلى الاهتمام الروسي اللافت للانتباه بدعم وجوده العسكري هناك. وهذه الأحداث تشير إلى أنه أصبح من الواضح أن على تونس مجابهة اختيارات صعبة تتجاوز النقاش المتعلق بضبط خطة وطنية للتعامل مع المقاتلين العائدين من بؤر التوتر أو شبكات التسفير بل تهتم كذلك بما يحدث على حدودنا المباشرة وضبط موقف سياسي نشيط يقوم بتثمين موقع تونس بصفتها البلد الذي لا يمكن الاستغناء عنه والأكثر تأثيرا على الساحة الليبية نظرا للروابط الاجتماعية والقبلية والعائلية التي تربط الشعبين في ليبيا وتونس والتي لا تملك أي نوايا توسعية وهي الأكثر تأثرا من جراء انهيار الدولة وانعدام الأمن وانقسام السلطة المركزية الليبية إلى أكثر من حكومة في كل من الشرق والغرب والجنوب. من جهة أخرى فقد بات من المعلوم أن الحفاظ على النجاحات التي قامت بها القوات الأمنية والعسكرية التونسية ضد المجموعات الإرهابية وتعزيزها يمر وجوبا عبر تأمين شبكة تأثير ونفوذ إقليمي تضمن جمع المعلومات المتعلقة بالجماعات المتطرفة التي تنشط في المغرب العربي والساحل الإفريقي وتعطي الإنذار المبكر لتفادي الهجومات المباغتة مثل ما حصل في بن قردان كما تسهل ربط تحالفات مع كيانات حكومية أو غير حكومية دون مستوى الدولة وذلك نظرا لخصوصية نشاط تلك المجموعات العابرة للحدود والمعتمدة بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية والقبلية والشبكات الإجرامية العاملة في مجال التهريب أو ترويج المخدرات. ومن المبادئ العسكرية المعروفة لدى المختصين هو مصطلح «ضمان الرؤية لما بعد الأفق» وهو أمر حيوي لنجاح عمل الوحدات المرابطة خلف الجدار العازل على الحدود الليبية ولا يمكن تحقيقه إلا بالجمع بين عمل العنصر البشري والتكنولوجيا الحديثة مثل الطائرات المسيرة دون طيار والتي حصلت القوات المسلحة التونسية عليها مؤخرا وبدأت تشغيلها بنجاح وتنسيق عمل وحدات الاستطلاع وتعزيز معداتها بجهاز رادار متنقل وحديث جدا قادر على رصد كل مواقع إطلاق القذائف المدفعية بجميع أنواعها من مدافع الهاون الخفيفة وصولا إلى المدافع الثقيلة وقاذفات الصواريخ مثل الكاتيوشا والغراد بل وحتى الطائرات دون طيار بعمق يصل إلى ستين كلم ودقة كبيرة ويتطلب تجهيزه خمس دقائق فقط. وأبرز مثال على نجاح ذلك ما قامت به وحدات الجيش الأمريكي في فيفري 2016 حيث باشرت برصد تحركات المقاتلين الذين تجمعوا في مدينة صبراتة الليبية وكانوا يعتزمون التقدم باتجاه الحدود التونسية لكنهم بوغتوا بهجوم جوي مفاجئ دمر معسكر التدريب الخاص بهم وأوقع فيهم خسائر فادحة مما أخر عملية بن قردان لمدة أسبوعين تقريبا تم استغلالها بصفة فعالة من طرف الوحدات الأمنية والعسكرية لضمان الاستعداد للدفاع عن التراب الوطني. وفي مجال دعم القدرات القتالية التقليدية تلقت القوات العسكرية والأمنية التونسية دعما هاما على مستوى المعدات الخاصة بنقل الجنود والعربات المصفحة المضادة للألغام حيث يحتل الجيش التونسي المرتبة الأولى في المغرب العربي في امتلاك هذه المعدات كما تحصل كذلك على الطائرات العمودية الهجومية والخافرات البحرية وأجهزة رادار متطورة. علما أن اتفاقية التحالف مع الولاياتالمتحدة تمكن الجيش التونسي ووحدات الحرس الوطني من الحصول على مجموعة من المعدات الحساسة لا تسمح وزارة الدفاع الأمريكية إلا لحلفائها الموثوقين بالحصول عليها كما أن مقتنيات تونس من تلك المعدات تخضع لمعاملة تفاضلية على المستوى المالي مما يخفض الأسعار التي كانت تدفعها تونس في السابق. ويشير الخبراء الأمريكيون إلى ضرورة بناء قدرات وحدات الجيش والحرس الوطني في مجال الحرب غير التقليدية والتي تتضمن إلى جانب عمل القوات الخاصة إتقان العمل في مجالات جديدة مثل التحكم في المعلومات والقدرة على مراقبة النشاط الإعلامي للمجموعات المتطرفة سواء عبر القنوات التقليدية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتعرف على مصادر الحملات المعادية للقوات المسلحة التونسية والتي دأبت على التشكيك في عمل الجيش ووحدات الحرس الوطني والشرطة وبث أخبار كاذبة ومضللة. أمًا المرحلة الموالية فتتمثل في صياغة خطاب مضاد لذلك النشاط الخطير يتم بثه عبر وسائل الإعلام وتضمينه داخل البرامج الدراسية. كما يشير الخبراء الأمريكيون إلى ضرورة بعث وحدات مشاة جبلية ضمن القوات المسلحة التونسية على غرار الفرقة العاشرة الجبلية في الجيش الأمريكي تكون بمثابة فيلق جبلي مماثل للفيلق الترابي الصحراوي نظرا لكون القوات الخاصة لا يمكن لها التمسك بالميدان بسبب طبيعة عملها في مجموعات صغيرة وسريعة مما جعل المجموعات المتطرفة تنسحب نهارا أمام تقدم دوريات الجيش والحرس لتعود ليلا وتزرع الألغام وتروع السكان الأبرياء وهو أمر من المستحيل حدوثه في صورة وجود وحدات مشاة جبلية تملك تدريبا وتجهيزا مختصا يؤهلها للتنقل والقتال في المناطق الجبلية حيث تتمسك بالميدان وتغطي كامل القطاع الموكول لها حمايته. لكن المكون الأكثر تأثيرا وحساسية في التعاون العسكري يبقى الموقف السياسي والنظرة المستقبلية للعلاقات التونسيةالأمريكية حيث لا تزال النخبة السياسية مع الأسف غارقة في صراعات ذات بعد حزبي وإيديولوجي وهي بعيدة كل البعد عن تطلعات الرأي العام الوطني أو الشركاء الأجانب على حد السواء. فمن الخطورة بمكان أن تكون النخبة السياسية تبني نظرتها للعلاقات الدولية بناء على تقارير صحفية أغلبها أجنبية وهي غير موضوعية أو على الأقل ينقصها الحياد وتغلب عليها نظريات المؤامرة وعدم تقدير دور تونس في المنطقة بل وصل الأمر إلى حد اعتماد مصادر من وسائل التواصل الاجتماعي لذلك أصبح من الضروري تفعيل دور مراكز التفكير الوطنية على غرار مركز الدراسات الإستراتيجية في صياغة الرؤية الوطنية للعلاقات الدولية ودور تونس في المغرب العربي وإفريقيا خصوصا وأن هذا المركز قدم مؤخرا دراسات مهمة حول مكافحة التطرف ومديره الحالي هو أستاذ تاريخ عسكري سبق أن درس في الأكاديمية العسكرية. ننتظر من الساهرين على صياغة سياسة تونس بلورة رؤية واضحة للتحالف مع الدول الغربية عموما والولاياتالمتحدة خصوصا والحرص على إتباع مبدأ الشفافية تجاه مجلس النواب والرأي العام الوطني والإعلان الدوري عن النجاحات المشتركة والتنسيق الثنائي والعمليات الميدانية التي ضد المجموعات المتطرفة وعدم التردد في ذكر ذلك أو الخضوع لمروجي نظريات المؤامرة. بقلم: ضياء عطي ( *) ( *) باحث تونسي بمعهد دراسات الشرق الأدنى مقيم بواشنطن