مازال ملف المؤسسات العمومية في تونس وبرنامج خوصصتها من أهم الملفات التي تحوم حولها الكثير من نقاط الاستفهام والأكثر جدلا بين ساسة البلاد خاصة أن حكومة الوحدة الوطنية، طرحته ليكون من أولويات خطة عملها منذ اعتلاءها الحكم في البلاد. وحول الجدل القائم بشان نية الحكومة خوصصة المؤسسات العمومية والتفويت فيها، أكد رئيس الحكومة يوسف الشاهد بحر الأسبوع المنقضي بأن قرار إصلاح المؤسسات العمومية لا يعني بالمرة التخلي عنها والاستغناء عن دورها، مشددا على أهمية وزن هذه المؤسسات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وضرورة إنقاذها وإعادة هيكلتها لضمان ديمومتها. كان ذلك على هامش ندوة نظمتها «كونكت» بعنوان «المؤسسات العمومية في تونس: الواقع والتحديات والآفاق». بالمقابل، يعتبر العديد من المتدخلين في الشأن الوطني أن خوصصة المؤسسات العمومية يعد تهديدا للقطاع العمومي في تونس وتجريد للدولة من أسلحتها الاقتصادية والتنموية. وهذا الموقف تبناه في الصف الأمامي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، مؤكدا على رفض الاتحاد لهذه الخطوة «الخطيرة». وحول حقيقة واقع المؤسسات العمومية، تحدث رئيس كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية طارق الشريف، عن الخسائر التي طالت هذه المنشآت في ما بين سنتي 2010 و2017 فاقت 7 آلاف مليون دينار، مشيرا إلى أن المساعدات المالية التي تم منحها لفائدة المؤسسات العمومية في سنوات 2014 و2015 و2016 بلغت أكثر من 10500 آلاف مليون دينار من بينها 5800 مليون دينار في سنة 2015. كما دعا الشريف خلال الملتقى الذي نظمته «كونكت» إلى ضرورة حوكمة التصرف في المال العام وتوجيه نحو الاستثمار لتطوير نسب النمو، مستغربا في ذات سياق من سيطرة الدولة على بعض القطاعات على قرار صناعة الاسمنت وصناعة التبغ. من جهته، أكد المدير العام المكلف بمتابعة إنتاجية المؤسسات العمومية برئاسة الحكومة، شكري حسين، أن عديد المؤسسات العمومية تسجل في خسائر كبرى على غرار الشركة التونسية للكهرباء والغاز والمجمع الكيميائي وشركة فسفاط قفصة والشركة التونسية للخطوط التونسية، موضحا أن الحكومة لا تملك إلى غاية اللحظة قائمة مضبوطة للمنشآت التي سيتم خوصصتها . كما أشار حسين، إلى أن تأزم وضعية هذه المؤسسات التي تدهورت مرابيحها لتمر من 1176 مليون دينار في 2010 إلى 1116 مليون دينار سلبي سنة 2016 يعود بالأساس إلى عدة أسباب أهمها ارتفاع كتلة الأجور للمؤسسات المذكورة من 2580 مليون دينار في 2010 إلى 4000 مليون دينار سنة 2016. إلى جانب زيادة هذه الكتلة بنسبة 80 بالمائة في نفس الفترة ببعض المؤسسات على غرار المجمع الكيميائي وشركة فسفاط قفصة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للحيطة على المرض. وكشف مدير عام كتب التدقيق «أرنست أند يونغ» نور الدين الحاجي، في تقديمه لدراسة حول أداء المؤسسات العمومية التي تم إعدادها خلال سنة 2016، أن 5 مؤسسات تسببت في 89 بالمائة من نسبة تراجع مداخيل المؤسسات العمومية والمتمثلة أساسا في المجمع الكيميائي وشركة الاتصالات التونسية وشركة الفولاذ وشركة فسفاط قفصة والشركة التونسية للأنشطة البترولية. كما بين الحاجي وفق نفس الدراسة التي شملت 92 مؤسسة عمومية من جملة 212 مؤسسة، تقلص دعم الدولة لهذه المؤسسات ليمر من 732 2 مليون دينار سنة 2010 إلى 207 2 مليون دينار في 2016، مشيرا إلى أن الخروج من هذه الإشكالية واستعادة المستوى المعقول لنشاط المنشات العمومية يستدعي أن تضخ الدولة ما يقارب 6.5 مليار دينار. وحول التجارب الناجحة في الخوصصة، أشار الخبير المحاسب والمدير السابق المكلف بالمؤسسات العمومية والخوصصة بوزارة المالية في المغرب، عبد العزيز الطالبي، إلى ارتكاز الاقتصاد المغربي على الخوصصة ومبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص وذلك قصد تعزيز التنافسية ودفع مستوى الخدمات في مختلف القطاعات، مشيرا إلى أن هذه المنشآت تبقى الممتلكات للدولة ويتكفل الخواص بالتدبير وبذلك تجني كل الأطراف أرباحا.. كما أكد الخبير المغربي أن الخوصصة لا تعني بيع المؤسسات العمومية فقط بل تهدف إلى عقلنة وتهيئة هذه المؤسسات للعمل ضمن مناخ تنافسي ملائم لدفع كل الأنشطة الاقتصادية المنتجة وخاصة إزالة الاحتكار وإرساء تكامل وتبادل بين القطاعين، موضحا أن إمكانية خوصصة المؤسسات يكون على مراحل مثل ما حصل مع شركة الاتصالات المغربي بعد أن تم بيع 35 بالمائة من رأس مالها والتي تحتل اليوم المرتبة الثانية من حيث حجم الاستثمار. وأضاف الخبير المغربي في ذات السياق، أن الدولة تساهم حاليا بنسبة 30 بالمائة لا غير في رأس مال شركة الاتصالات بعد إدراجها في البورصة وفسحت المجال أمام كل المستثمرين، مؤكدا أن نحو 98 بالمائة من الموظفين يمتلكون أسهما في هذه الشركة التي تسجل تطورا ملحوظا في الأرباح. كما بين الخبير أن الدولة المغربية تستأثر ببعض المؤسسات على غرار السكك الحديدية والطيران الجوي وإنتاج المياه في حين تعنى المؤسسات الخاصة بعدة مجالات على غرار توزيع الماء والتطهير وإنتاج 70 بالمائة من الكهرباء وتوزيعه.. هذه التجربة التي تبدو الأقرب لتطبيقها في بلادنا باعتبار أن المغرب من البلدان القريبة إلى تونس جغرافيا وهيكليا، حسب ما اجمع عليه الحاضرون في الملتقى.