لو كتب لفلسطين أن تتحدث عن النكبة التي أصابتها، فما عساها تقول للعالم وهي تسجل كل يوم ضياع وتلاشي الحلم الذي كان يعتبر بأن القضية الأولى للعرب؟ مع أن قرار الرئيس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس لم يكن مفاجئا، فقد جاء تنفيذ القرار بالأمس ليؤكد أن استغاثة القدس لم تجد لها صدى في العالم... صحيح أن الرئيس الأمريكي الذي برهن حتى الآن أنه وفي لوعوده التي أطلقها إرضاء للوبي المالي اليهودي المتنفذ في مؤسسات صنع القرار الأمريكي قد تراجع عن مواكبة الحدث وخول الأمر لابنته وصهره مهندس صفقة القرن، فان ما حدث جعل الرئيس الأمريكي يجسد دور رعاة البقر كأسوأ ما يكون عليه الأمر بالنسبة لرئيس أكبر قوة في العالم وأحد أعضاء مجلس الأمن الدولي وصناع الوثيقة المؤسسة للأمم المتحدة ولمفهوم العدالة الدولية التي تذبح على عتبات مقر السفارة الأمريكية الجديد... على أن هذا الدور الأرعن للرئيس الأمريكي والفصل الثاني من وعد بلفور الذي مر عليه قرن من الزمن لا يخفي بأي حال وجها لا يقل سوءا وهو وجه الحكام والقادة العرب الذين يشتركون في الغياب عن المشهد وفي عجزهم غير المسبوق... ولعله من المهم وفي انتظار الحصيلة النهائية لشهداء فلسطينالمحتلة الذين ارتقوا بالأمس خلال مسيرة العودة برصاص الاحتلال، الانتباه الى مسائل لا تخفى على مراقب في تطور بالمشهد الفلسطيني، وأولها أنه وفي غياب موقف عربي أو دولي إزاء المحرقة التي تسجل في حق أصحاب القضية وهي قضية مرتبطة بمظلمة تاريخية طالت أكثر مما ينبغي بقطع النظر عن جذور وانتماء الشعب الفلسطيني، فان الثابت أن استمرار الوجود الفلسطيني على الأرض سيظل عنصرا حاسما في التصدي لصفقة القرن. حتى كتابة هذه الأسطر قدر عدد الضحايا بالعشرات من الشبان الفلسطينيين الى جانب نحو تسعمائة مصاب وهي حصيلة ثقيلة يدفع ثمنها أبناء الشعب الفلسطيني في حركة شعبية تلقائية بمنأى عن كل القيادات وبعيدا عن كل الفصائل المهيمنة على الساحة، وهو ما يجرنا للقول بأن المعركة ستكون طويلة وأن حكومة الاحتلال الإسرائيلي لن تتحرج من مواجهة الانتقادات والاتهامات من بعض المنظمات الحقوقية وستجد كل التبريرات من الإدارة الأمريكية الراهنة ومن كل الصقور العائدين اليها بترحيب معلن من رئيس الوزراء الإسرائيلي ناتنياهو الذي لا يخفي قناعته بأن إدارة ترامب تبقى الحليف الأكبر لإسرائيل بين مختلف الإدارات السابقة... النقطة الثانية تتعلق بالموقف المخجل للاتحاد الأوروبي الذي كانت معارضته للقرار الأمريكي أشبه بدفع اللوم من الانتصار للقانون والعدالة الدولية، وهي مسألة أيضا ما انفكت تتكرر على مدى عقود حيث تبقى عقدة الذنب الأوروبية إزاء المحرقة قائمة وحيث تستمر معها لعبة صكوك الغفران والابتزازات التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وورقة معاداة السامية في وجه من يتجرأ على انتقاد جرائم كيان الاحتلال والمحارق المقترفة في حق الشعب الفلسطيني والعربي على مدى عقود... النقطة التالية تتعلق بالاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية غدا الاربعاء بعد وقوع الفأس في الرأس والذي لا محل له من الإعراب سوى تسجيل الحضور في زمن الانهيار غير المسبوق في المشهد العربي والذي امتد من التشتت والتفكك والانقسامات الى الفتن والصراعات الدموية التي تجرف الجميع في منطقة الشرق الأوسط المتفجرة... الملاحظة التالية تتعلق حتما بالمستفيد الأبرز من الدمار الحاصل في المنطقة والذي تنفرد به إسرائيل التي تتمعش مما أصاب العراق من ضعف وما أصاب سوريا من حروب أهلية وخراب مستمر وحتى مما أصاب اليمن الذي استطاعت اختراقه والحصول على النسخة الوحيدة من التوراة التي كانت محفوظة في هذا البلد. الملاحظة التالية تتعلق بالدول التي شاركت في تدشين السفارة الأمريكية بالأمس والمقصود بها ليس غواتيمالا او بورما ولكن قائمة الدول الإفريقية وبينها اثيوبيا وانغولا والكامرون وكينيا ونيجيريا ورواندا وجنوب السودان وتنزانيا وزامبيا والكونغو وساحل العاج وهي احدى عشرة دولة من بين خمسين دولة افريقية وهنا خطورة الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية في السنوات القليلة الماضية وهو أمر ما كان ليحدث قبل سنوات. بقي الأهم ما الذي يمكن القيام به إزاء هذا المشهد؟... لقد كشفت صفقة القرن أن أكبر المستثمرين الذين دفعوا ترامب الى هذا الخيار هم ثلاثة من أكبر المتبرعين للرئيس الأمريكي في الحملة الانتخابية، وهم شيلدون أديلسون، ملك القمار والداعم الأكبر للاستيطان، ورجل الاعمال برنارد ماركوس، وبول سينجر وثلاثتهم من اليهود المتزمتين الداعمين للاستيطان وهم من مولوا وخططوا لمقر السفارة الأمريكية الجديد وتحملوا تكاليف بنائها ودفعوا بثقلهم المالي وراء ترامب، وهم أيضا من أعادوا جون بولتون الى الإدارة الأمريكية. ومن هنا التناقض الصارخ في المشهد الفلسطيني الذي فقد خلال السنوات الماضية الكثير من الدعم والتمويل الذي كانت تحظى به المخيمات عربيا ودوليا ليطغى على السطح في المقابل عقد صفقات التسلح التي تتنافس على توقيعها دول عربية لتدمير بعضها البعض واستنزاف بعضها البعض... لو كتب لفلسطين أن تحدث العالم اليوم لما اهتمت بما يقوم به سماسرة وتجار القضية ولما توقفت عند خطوط أكبر وأخطر مؤامرة في التاريخ الحديث، ولما توقفت عند ترامب وزمرته ولا حتى عند كل الأطراف المعنية بصفقة القرن.. ولكن ستروي للتاريخ حكاية شعب لا يعرف اليأس الى قلبه طريقا وهو شعب عجزت قوى الاحتلال عن كسر إرادته وقتل الطموح والكبرياء فيه. ولو كتب لفلسطين أن تتحدث لأخبرت العالم بحكاية كل أم فلسطينية تودع فلذة كبدها بالزغاريد ولا تتردد في زف الثاني للشهادة، ولأخبرت صناع القرار فيه عن كل طفل فلسطيني يولد وهو يردد في مهده كالمسيح عبارة «فلسطين» مكذبا نبوءة حاخامات إسرائيل بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون... ولو كتب لفلسطين أن تتحدث اليوم ستروي حكاية كل حجر على أرضها صنعت ملحمة الانتفاضة، وستروي حتما أن اسم فلسطين سابق للتاريخ وأنه باق على مدى التاريخ وأن على تلك الأرض من يرسمون كطائر الفينيق بدمائهم وأحلامهم بقية أسطورة أزلية...