المشهد مؤلم وقاتم وتعجز معه كل اللغات عن نقل حجم المأساة أمام لوعة الاهالي وهم يبحثون بين الجثث النافقة عن فلذات أكبادهم... اذ وبرغم تواتر المآسي في السنوات الماضية يظل المشهد أصعب وأعقد من التعاطي معه كحدث يمكن أن يدخل إطار العادة والمألوف... ما حدث على السواحل التونسية بالأمس تكرر أيضا على السواحل التركية ومن قبلها على السواحل الليبية والسورية واليونانية والارجح أن المآسي ستتواصل في ظل استمرار الاسباب والدوافع التي تدفع بالمهاجرين الى ركوب الخط ولكن أيضا في ظل استمرار السياسات الاوروبية والخيارات المجحفة. والأفظع الصمت المريب بشأن ظروف وملابسات ابحار نحو مائتي نفر دون أن يثير ذلك الشكوك أو الريبة، والأخطر أن يختفي المسؤولون وينشغلوا بزيارة الاسواق وتدشين الفنادق الحلال وكأن قرقنة ليست جزءا من البلاد التي يديرون شؤونها ... المتوسط وبدل أن يكون جسرا للفرص الاستثمارية في مختلف المجالات بين الشمال والجنوب بات مقبرة للشباب الذي يدفع ثمن فشل النخب والحكام ولكن أيضا ثمن سياسة المعايير المزدوجة للقوى الكبرى والقوى الاستعمارية السابقة التي تريد لدول الجنوب ان تكون الشرطي الحارس لأمنها ومصالحها في وجه الهجرة غير الشرعية ومافيا السلاح وعصابات المخدرات ... من المسؤول عن نزيف سفن الموت وكيف يمكن الحد من الظاهرة أو تطويقها؟ الاكيد أنه لا أحد اليوم يملك اجابة مقنعة للقطع مع رحلات الموت المدفوع الاجر، بل لعل في صرخات الاباء وهم يواجهون الامر الجلل ما يدفع الى طرح السؤال ذاته كلما تعلق الامر بشبكات الارهاب التي تستقطب الشباب وتجعل منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كل حين في المجتمعات التي ينتمون لها... وفي ذلك ما يؤكد هذه الحقيقة وهي أن غول الهجرة غير الشرعية كغول الارهاب يخطف الشباب وحتى الاطفال في غفلة من ذويهم، آباء ملتاعون يرددون أن أبناءهم لم يكشفوا يوما عن رغبة في الهجرة وأن بينهم من لا يشكو بطالة أو تهميشا... مرة أخرى يكون تجار البشر على الموعد ليستثمروا في مآسي فئة مهووسة بالرحيل لم تعد تجد في أوطانها ما يدفعها للثبات والتمسك بالجذور التي تنتمي لها للبحث عن بدائل أو ليوقعوا عبر سفن الموت أطوار مأساة جديدة تضاف لسلسلة مآسي البحر السابقة ورحلات الموت اليومية المحملة بأحلام شباب اختار عن وعي أوعن غير وعي المقامرة للقطع مع واقعه والتطلع الى موقع تحت الشمس فانتهى به الامر الى قاع البحر... مشهد بات يتكرر على شواطئنا ليعمق جروح عائلات الضحايا ويفاقم النزيف والآلام.. وإذا كان المتوسط مقبرة المهاجرين غير الشرعيين، فإن تونس بلد الثورة التي أبهرت العالم باتت المنصة لانطلاق قوافل المهاجرين المغادرين تحت جنح الظلام وبين هؤلاء شباب وأطفال ونساء حوامل... قد يكون لكل حلمه وقد يكون لكل هدفه عندما قرر ركوب البحر والاستعداد لكل الاحتمالات ذلك أن نسبة الوصول سالما الى الضفة الاخرى ليست أكبر من احتمال الغرق من الواضح أنه لا شيء اليوم يمكن أن يوقف النزيف الجديد الذي لا يقل خطورة عن الارهاب الاسود في أبشع مظاهره ولا شيء يمكن أن يمنع تكرار المأساة التي تحولت الى مآسي، وقبل حتى أن تندمل جراح عائلات من سبق من الضحايا إلا ويتكرر السيناريو مع لوعة الاهالي أمام هول المشهد وانتشار الجثث التي لفظها البحر على الشاطئ فيما يظل أهالي المفقودين يتطلعون الى أمل عسى أن يكون أبناؤهم على قيد الحياة .. ما حدث نهاية الاسبوع في جزيرة قرقنة ليس المأساة الاولى ولن يكون حتما الاخيرة في زمن بات فيها سياسة الهروب الى المجهول خيار أمام جيل من الشباب تساوى أمامه الموت والعدم بعد أن فقد الثقة في محيطه ونخبه وبيئته.. شباب غابت عنه البدائل فألقى بنفسه الى جحيم قوارب الموت على أمل الوصول الى الضفة الاخرى للمتوسط حيث يتوهم أنه سيجد الجنة في انتظاره وسيجد بدل فرصة العمل مات الفرص للكسب... من المتناقضات التي كشفتها مآسي سفن الموت أن التجنيس الذي كان عارا يلاحق اصحابه خلال مرحلة النضال من اجل الاستقلال أصبح حلم اجيال الاستقلال وهدفها الاول في الحياة سواء كان ثمن التجنيس رحلة الموت عبر سفن وقوارب الموت او الارتباط بأوروبيات في سن الأم أو الجدة أو غير ذلك من الاسباب.. وربما فات هؤلاء الشباب المغرّر بهم أن اوروبا اليوم ليست أوروبا الامس وأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا سيتجه الى استهداف هؤلاء حتى وان أدى الامر الى تعمد اغراق هذه السفن والتخلص من أصحابها في قاع البحر..