ما يزال طريق المأساة مفتوحا بين قرقنة والشواطئ الايطالية فبعد مضي 9 اشهر عن فاجعة 8 اكتوبر تحل بسواحل قرقنة كارثة جديدة اسفرت عن وفاة 48 مهاجرا سريا وانقاذ 68 اخرين فيما لا يُعْرف بعدُ عدد المفقودين. تونس «الشروق» : أصبحت قرقنة خلال السنوات الاخيرة نقطة انطلاق رئيسية لقوارب الموت او قوارب «الحرّاڤة» في اتجاه السواحل الايطالية. فالجزيرة اصبحت وفقا لمصطفى عبد الكبير رئيس مرصد حقوق الانسان خارج السيطرة الامنية ومكانا لنفوذ مافيا الاتجار بالبشر. وحين نتحدث عن رحلة هجرة سرية فإننا نتحدث عن وسيط وعن منظم وعن تمويلات وأماكن تخفّ ونقل وهي عملية اجرامية معقدة انتصرت فيها مافيا الاتجار بالبشر على اليقظة الامنية. 15 الف مهاجر سري والهجرة السرية لم تنقطع ما قبل 8 اكتوبر وبعدها وهو تاريخ غرق مركب حرّاڤة بعد اصطدامه بخافرة عسكرية حاولت اعتراض طريقه لمنعه من التقدم نحو ايطاليا. وحتى خلال الاسبوع الذي أعقب الحادثة والذي استمرت فيه عمليات البحث عن مفقودين فان رحلات الموت لم تتوقف بل ان قوارب موت جديدة انطلقت في اتجاه الساحل الايطالي ووصل ركابها وفيهم من تم ترحيلهم وفيهم من واصل رحلته في اتجاه فرنسا. ويقدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عدد الذين هاجروا بطريقة غير نظامية خلال 2017 ب15 ألف شخص منهم 6151 مروا عبر السلطات الايطالية و3178 تم احباط محاولتهم من تونس والبقيّة وصلوا الى السواحل الاوروبية. وقدر عدد من حاولوا اجتياز الحدود خلال الثلاثية الاولى من 2018 ب3 آلاف شخص وهو ما يمثل عشر مرات العدد خلال نفس الفترة من 2017. أرقام تخفي حالة من الياس والاحباط يعاني منها الشباب فاختار طريق الموت. فكارثتيْ 8 اكتوبر و2 جوان يبدو انها لن توقف تيار ونزيف الهجرة السرية والتي هي عنوان لازمة حقيقية تعيش على وقعها البلاد حيث اصبحت تونس حاضنة لليأس بالنسبة للشباب فاختار الموت غرقا. اذ تشير دراسات عديدة أنجزتها جمعيات ومنظمات تونسيّة بالشراكة مع منظمات دولية الى ان اغلب الشباب يفكر في الهجرة وان ما لا يقل عن 60 ٪ من هؤلاء لا يرى مانعا في الهجرة بطريقة غير شرعية ان توفرت الفرصة. وكان العديد من الباحثين في علم الاجتماع قد حذروا منذ بداية الألفينات من تعاظم ظاهرة الهجرة السرية والتي اعتبروها ظاهرة تخفي ازمة اقتصادية واجتماعية في البلاد. وللحد من الظاهرة وجد بن علي سابقا في قانون مكافحة الارهاب او ما يعرف بقانون 2003 حلا في التصدي القانوني لتعاظم هذه الظاهرة ولئن تم التضييق على الحرّاڤة في السواحل التونسية فان الكثيرين وجدوا الحل في التوجه نحو القطر الليبي للتسلل من هناك في رحلات مضمونة الوصول وفقا لشهادات كانت قد وثقتها ونشرتها «الشروق» سابقا. يأس بعد انهيار نظام بن علي ورغم الآفاق التي انفتحت عليها احلام الشباب في تونس الا ان موجة الهجرة السرية برزت بقوة فوصل خلال سنة 2011 ما يناهز 20 الف مهاجر سري الى ايطاليا. كما ان شكل الرحلة آنذاك تغير اذ لم تعد سرية وتنطلق من أماكن تخفّ بل إنها حدثت في سواحل جرجيس مثلا في وضح النهار وتواجد اهالي الحرّاڤة في المكان لتوديع ابنائهم. خفت الرحلات لاحقا مع تنامي الامل في التغير الاقتصادي والاجتماعي في البلاد الا ان اشتداد الازمة وانسداد الآفاق اعاد الشباب الى رحلات الموت مجددا. بعضهم يلاقي الدعم من اهله فيوفرون له التمويلات الضرورية ويشجعونه وبعضهم الاخر يعتبره الامل الوحيد المتبقي من حياة «الظلم» التي يعيشها في تونس. كما ان رحلات الهجرة السرية هي طريق للفارين من العدالة والمفتش عنهم. وهي ايضا طريق كل يائس في البلاد وتكاثر هذه الرحلات يعني بالضرورة زيادة عدد اليائسين في البلاد. ومع تزايد التضييقات الاوروبية على حق التنقل وصعوبة الحصول على تأشيرة دخول الى الدول الاوروبية يجد الكثير من الشباب في تحدّي ركوب البحر سرا والتسلل نحو الشواطئ الايطالية حلّا لإنهاء «مأساته» في بلاده وضمان مستقبله رغم انها رحلة محفوفة بالمخاطر ومصيرها مجهول. وقد نبه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في اكثر من مناسبة من حالة الاحتقان الاجتماعي ومن الكلفة الاجتماعية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة والتي لم تفرز سوى مزيد من الياس والاحباط وشجعت الشباب على «الحرقة» بعد فقدان الامل وانسداد الآفاق فاختاروا اكثر الحلول يأسا. ولا تتوقف حالة الياس وانسداد الافاق عند دفع الشباب نحو الحرقة فحسب بل إنها ايضا الدافع للانتحار والعنف علما وان منسوب الجريمة والعنف في البلاد ارتفع وهو ايضا مؤشّر لازمة اقتصادية واجتماعية عميقة وفقا لمتابعين للشان الاجتماعي في البلاد. في المقابل تتزايد الرغبة في الهجرة لدى الكثير من الكفاءات في البلاد أو ما بات يعرف بهجرة الادمغة اذ سبق وان كشفت احصاءات صادرة عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ان عدد المهاجرين من الكفاءات العلمية بلغ 94 الف كفاءة اي ما يمثل 8.9 ٪ من مجموع التونسيين المقيمين بالخارج. وبالاضافة الى عمق الازمة الاقتصادية والاجتماعية لم يرتق اداء السياسيين الى مستوى فتح آفاق لعموم التونسيين وفي الوقت الذي يغرق فيه التونسي في ازماته تغرق الاحزاب في صراعاتها حول السلطة وهو ما زاد الوضع تعكيرا.