ليس فينا من لم يهتز وليس فينا من لم يتألم وليس فينا من لم يحزن ولم يشعر بالقهر والاحباط وهو يتابع تلك المشاهد الاليمة التي تابعها التونسيون ومعهم الكثيرون عبر مختلف المواقع الاعلامية في العالم عن المأساة المتجددة للحراقة من شباب وأطفال ممن راهنوا على واقع أفضل في الضفة الأخرى للمتوسط فوقعوا فريسة في مقبرة الاحلام، بعد أن تحولت جزيرة لامبادوزا إلى قبلة شريحة واسعة من الشباب اليائس في مسعاه للهروب والرحيل بأي ثمن وبأية وسيلة كانت، من براثن الفقر والبؤس والافلاس بكل معانيه المادي والثقافي والديني، فاختار عن وعي أوعن غير وعي الهروب الى الامام، شعاره في ذلك لا حياة بلا كرامة... عندما أقدم البوعزيزي على اضرام النار في نفسه وألهب بذلك أول ثورة شعبية في مسار الربيع العربي كنا نعتقد أنه لن يموت بعد ذلك شاب في تونس الثورة بسبب القهر أو الظلم، وكنا نأمل أن الشباب الذي صنع الثورة سيلغي نهائيا مصطلح الانتحار والموت واليأس من قاموسه وسيستعيد الموقع الذي يستحق على الارض التي طالما تعرض فيها للتهميش والاقصاء والحرمان، ولكن الواقع ما انفك يغذي الشكوك والمخاوف ويبدد الآمال الكثيرة لنقع بين الأسلمة والعلمنة التي توشك أهداف الثورة أن تضيع في خضم جدل كنا نعتقد أن عقلية التونسي المتنورة قد تجاوزته منذ زمن طويل، جدل لا يقدم ولكنه يؤخر بل يدفع بنا الى التقهقر والتراجع قرونا الى الخلف... مشهد رجال الانقاذ الايطاليين وهم يسحبون الجثث ويحصون الضحايا مشهد صادم كيفما قلبته، ولا شك أن الكثيرين قد تمنوا لو أن الخبر كان كاذبا أو من تلفيق تلك الفئة من "الاعلاميين" المتمردين المتهمين بالوقوف وراء كل مصيبة تحل بالبلاد... ولعل ما زاد الامر تعقيدا غياب السلطات الرسمية وانصرافها عن متابعة الحدث أو إبداء الاهتمام المطلوب بالكارثة الى حين خروج أحد مسؤولي الحكومة ليزيد الطين بلة وهو "يقر بإخراج جثتين تبين أنهما فارقا الحياة على حد تعبيره". تصريح أزعج الكثيرين دون شك ولا يمكن أن يساعد بأيّة حال من الاحوال في بلسمة جراح أهالي الضحايا أو تخفيف وقع المصيبة. الواقع أن الحادثة التي سجلت نهاية الاسبوع لم تكن الاولى من نوعها ولن تكون حتما الاخيرة ولكن وقعها وحصيلة الضحايا كانت الأثقل هذه المرة. قد يكون من العبث في هذه المرحلة الحديث عن تحديد المسؤوليات فيما حدث، فكلنا مسؤولون ويخطئ من يعتقد أنه في منأى من المساءلة والمحاسبة، واذا كان لعائلات الضحايا المنكوبين نصيب من المسؤولية التي لا يمكن إنكارها فإن الاكيد أنهم ليسوا وحدهم من يتحمل ثمن الكارثة بل ان تجار البشر الذين اختاروا المتاجرة بأحلام الفقراء لتضخيم أرصدتهم البنكية وسخروا لذلك سفن الموت، لهم النصيب الأكبر من المسؤولية تماما كما هو حال بالنسبة لحراس السواحل الذين تخلفوا عن القيام بالواجب وفشلوا في رصد واكتشاف تلك العمليات اللامشروعة ومنع وقوع الكارثة ليسوا بالأبرياء كما يتوهمون... ما حدث في الساعات القليلة الماضية يجب أن يكون صرخة مدوية في آذان الحكومة التي تصم اذانها عن الام وماسي مواطنيها الذين انتخبت لخدمتهم... نقول هذا الكلام وكلنا قناعة انه آن الأوان للترويكا أن تعيد قراءة وتقييم المشهد الراهن بعد ازالة النظارات السوداء التي تغشي أبصارها وتبحث جديا عن اجتثاث كل الاسباب التي تدفع شباب الثورة الى الهروب من وطنه والارتماء في أحضان المجهول وأن تبدأ بفتح تحقيق شامل حول الحادث، تحقيق لا يكون استنساخا لتلك التحقيقات السابقة التي ظلت مجرد حبر على ورق كما هو الحال بشأن احداث التاسع من أفريل أو أحداث سجنان أو أحداث جامعة منوبة أو المدرسة الزيتونية أو اعتداءات السلفيين المتكررة أو غير ذلك من التحقيقات التي ظلت مجرد ذر للرماد على العيون. لقد أعادت مأساة سفينة الموت إلى الأذهان تصريحات أحد الشباب ممن كان يحلم بالرحيل الى حيث يمكنه أن يعيش بكرامة حيث اعتبر أنه يعيش في بلاد يحاصره فيه الموت في كل حين وأنه اذا لم يخاطر فانه سيظل في عداد الاموات طوال حياته انها تصريحات تعكس الواقع النفسي لآلاف الشبان الذين باتوا بلا طموحات أو أحلام أو خيارات بعد أن سدت المنافذ أمامهم ولم يبق لديهم من خيار الا أن يشربوا من ماء البحر حتى الموت...