رغم أن البنك المركزي رفع سعر الفائدة الرئيسي أربع مرات في عام واحد، (مرتين في مارس وجوان منذ تنصيب محافظ البنك المركزي الجديد)، استمر التضخم في الزيادة بوتيرة متواصلة ومطردة وبشكل ثابت، إذ ارتفع من 4.25 ٪ في ماي 2017 إلى 7.8 ٪ في جوان 2018. وهي نسبة مرتفعة للغاية لم تعرفها تونس منذ أكثر من عقدين. وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة عن سبب هذا التضخم وعن جدوى آلية الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية في كل مرة دون أن نلمس انخفاضا ملموسا وحقيقيا في نسبة التضخم وبالتالي في كبح جماح الأسعار المرتفعة التي مست كل شيء تقريبا مواد غذائية، نقل، طاقة، خدمات، عقارات.. بل العكس هو ما يحصل. اللافت للانتباه أن الترفيع في سعر الفائدة هو من بين المطالب الأساسية التي عادة ما يوصي بها صندوق النقد الدولي في جل بياناته تجاه تونس وخاصة في كل مرة يقترب فيها موعد صرف أحد أقساط القرض المدد الموقع مع تونس في ماي 2016. وأكد اهتمام الصندوق وحرصه على ان يعمل البنك المركزي التونسي على الرفع من سعر الفائدة الرئيسية حين أشار في بيانه الأخير المؤرخ في 9 جويلية 2018 أن «الارتفاع الكبير في سعر الفائدة الأساسية مؤخرا أوضح قوة التزام البنك المركزي بالحفاظ على استقرار الأسعار. وقد يتطلب الأمر تطبيق زيادات أخرى على أسعار الفائدة إذا لم يتباطأ معدل التضخم، وخاصة مع بقاء أسعار الفائدة الرئيسية سالبة بالقيم الحقيقية.» في محاولة لإيجاد إجابة عن هذه التساؤلات توجهت «الصباح» إلى الخبير المحاسب وليد بن صالح. الذي بيّن أن الوقائع تؤكد ان ارتفاع نسبة التضخم ليست ذات منشأ مالي أو نقدي بل هي مرتبطة بعوامل أخرى اقتصادية واجتماعية.. وقال بن صالح إن من بين المهام الرئيسية للبنك المركزي الذي يتمتع بالاستقلالية التامة المالية والإدارية منذ سنة 2016 هي السيطرة على التضخم. ومع ذلك، ليس لدى البنك المركزي مساحة كافية للمناورة. وقال: «أداة السياسة النقدية المستخدمة عادة في حالة الضغوط التضخمية هي رفع سعر الفائدة الرئيسي من أجل السيطرة على الاستهلاك وتقليل الفجوة مع التضخم. علما أن نسبة التضخم المتصاعدة منذ أشهر في تونس خاصة منذ مطلع العام الجاري والتي صلت إلى مستوى قياسي بلغ 7.8٪ في نهاية جوان 2018، أسبابها الحقيقية ليست نقدية وهو ما يضع قرار الترفيع في نسبة الفائدة المديرية محل شك وتساؤل. وهو القرار الذي كان محل ترحيب من قبل خبراء الصندوق النقد الدولي في عدة مناسبات.» فالبنك المركزي، اعترف في مذكرته التوضيحية التي نشرت في 14 ماي 2018، أن الزيادة في نسبة التضخم تعود أساسًا إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية ومعظم السلع والمواد الأولية، وارتفاع التضخم بين شركاء تونس الرئيسيين، وارتفاع الأجور دون تحسين الإنتاجية، واستمرار العجز التجاري عند مستويات غير مطمئنة، وتسارع الطلب المحلي الاستهلاك خاصة من قطاع السياحة.. وكل هذه العوامل لا ترتبط بالسياسة النقدية. فمعظم هذه العوامل الخارجية تغذي التضخم المستورد. تضاف إليها الزيادات الضريبية على جميع المنتجات والخدمات المحلية والمستوردة وكذلك الانزلاق المستمر وغير المسبوق لقيمة الدينار بسبب المرونة المرغوبة لسعر الصرف في تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي. ارتفاع كلفة المنتجات وحسب بن صالح، تؤثر هذه الوضعية ليس فقط بشكل مباشر على تكلفة المنتجات والخدمات المعدة للاستهلاك فحسب، ولكن أيضًا على عوامل الإنتاج المحلية المختلفة، مثل الاستثمارات والمواد الخام والمنتجات شبه النهائية.. كما أن عدم وجود تدابير فعالة للسيطرة على الواردات، بما في ذلك المنتجات الاستهلاكية غير الضرورية والمنتجات المماثلة المصنعة محليًا، يعد أيضًا عاملاً رئيسًا في العجز التجاري والتضخم. ويرى بن صالح أن إعداد البنك المركزي لقائمة من المنتجات التجارية (أثارت جدلا كبيرا في غياب معايير الاختيار عقلانية) التي لا يتم استيرادها إلا على أموال خاصة من وكلاء تجاريين لخفض الواردات التي كانت نتائجها محدودة، من ناحية، ويمكن التحايل عليها بسهولة من قبل الموردين والنظام المصرفي من جهة أخرى. وقال: «على العكس من ذلك ساهمت تلك الإجراءات في تفضيل الوضع التجاري والتنافسي المسيطر وحتى الاحتكاري لبعض المستوردين الذين يملكون وسائل كافية ودعمًا ماليًا يلحق الضرر بالمتعاملين الاقتصاديين الآخرين». عوامل اقتصادية في سياق متصل، تساءل الخبير عن جدوى التحكم في التضخم عن طريق زيادة سعر الفائدة في حين أن هناك عوامل اقتصادية خارجة عن نطاق السيطرة ونعني بها الاقتصاد الموازي وغير الرسمي الذي يمثل حاليا أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي في تونس، ويعد ملجأ معظم المستهلكين لانخفاض كلفته وأسعاره.. مشيرا إلى غياب تدابير فعالة للتحكم في مسالك التوزيع، بما في ذلك مسالك المنتجات الأساسية (الزراعية، الغذائية،..)، والتحكم في الأسعار، ومكافحة المنافسة غير المشروعة، وكذلك مظاهر الاحتكار الخارجة عن نطاق السيطرة. وخلص بن صالح إلى التأكيد مجددا على أن الزيادة في نسبة التضخم لا تعود إلى عوامل مالية نقدية بل إلى عوامل اقتصادية واجتماعية (زيادة الأجور دون دور فعال في الإنتاج والإنتاجية)، ومعالجتها من مسؤولية الحكومة من خلال التنسيق الكامل مع البنك المركزي. ومن بين تلك العوامل أيضا الاستيراد المباشر وغير المباشر (المباشر للمنتجات الاستهلاكية؛ وغير مباشرة للسلع المنتجة محليا) وأيضا مكونات تلك المنتجات والسلع وعوامل الإنتاج الأخرى (المعدات والمواد الخام والمنتجات شبه النهائية والطاقة وغيرها) التي يتم استيرادها في الغالب، وهذا هو الحال بالنسبة لجميع منتجاتنا في جميع القطاعات تقريبا. الأمر الذي دفع الخبير إلى التساؤل عن القيمة المضافة الحقيقية لإنتاجنا الوطني، فرغم أن البنك المركزي رفع سعر الفائدة الرئيسي أربع مرات في عام واحد، استمر التضخم في الزيادة بوتيرة مطردة بشكل ثابت، حيث ارتفع من 4.8٪ في ماي 2017 إلى 7.8 ٪ في جوان 2018. والزيادات المتتالية في سعر الفائدة الذي ارتفع من 4.25٪ ماي 2017 بنسبة 6.75٪ في جوان 2018، وهي زيادة بنسبة 250 نقطة أساس أو 59٪ يمكن أن تكون لها نتائج عكسية وتشكل بدورها عامل تضخم. وأوضح أنه مع ممر 100 نقطة أساس، سيكون سعر الفائدة الرئيسي TMM أكثر من 7.5 ٪ خلال الفترة القادمة. وهذا الوضع يؤدي إلى زيادة في مدفوعات الفوائد تبلغ حوالي 30٪ لكل من الشركات والأسر، وقد يؤثر على قدرة السداد (الديون غير المستدامة). وبالتالي زيادة المبلغ المستحق من الديون غير المسددة والمطالبات المصنفة في القطاع المصرفي والمالي. تجدر الإشارة إلى أنه في نهاية 2016 ، 72 ٪ من القروض المستحقة الممنوحة من قبل البنوك هي للشركات و28 ٪ للأفراد (أكثر من نصفها في شكل قروض عقارية). وبالتالي فإن الزيادة الكبيرة في تكلفة الاستثمار والنفقات المالية للشركات، التي ستستمر حاجتها إلى تمويل رأس المال العامل وعجز التدفق النقدي،.. سوف تنعكس في أسعار بيع المنتجات والخدمات المختلفة. ونتيجة لذلك، المزيد من التضخم. نتائج سلبية عديدة ويستخلص بن صالح في النهاية بأن زيادة سعر الفائدة سيكون له تأثير سلبي على خدمة الدين الدولة وتكلفة الموارد للمؤسسات المالية، بما في ذلك شركات التأجير والتخصيم والمؤسسات الصغرى التي تمول الاستثمار والنشاط الاقتصادي حصرا ولا تجمع الودائع، والتي تتآكل هوامش الفائدة لديها وتزيد في تكلفة المخاطر. وعّبر في الأخير عن اعتقاده بأن التحكم في نسبة التضخم لن يتم في الوقت القريب في غياب إجراءات ملموسة عاجلة فعالة للسيطرة على عوامل التضخم الحقيقية، سيواصل البنك المركزي وفقا لتوصيات صندوق النقد الدولي، اعتماد السياسة النقدية نفسها من خلال زيادة سعر الفائدة من أجل التحكم في نسبة التضخم (قد تصل إلى 8 بالمائة قريبا) وفي هذه الحالة سيرفع البنك المركزي من نسبة الفائدة 125 نقطة أساس. وبالتالي فإن العواقب ستكون شديدة وثقيلة على تكاليف موارد مختلف المتدخلين الاقتصاديين، تمويل الاستثمار واستغلال الشركات، القدرة على تحمل ديون المهنيين في عديد القطاعات وكذلك الأفراد، الربحية والقدرة التنافسية للشركات، المقدرة الشرائية للمواطن، وخدمة الدين العام..