أرادوا كتم صوتها فتصدرت أخبار العالم، وأرادوا ترهيبها فازدادت قوة وصلابة وأرادوا كسر ارادتها فعادت أكثر جرأة وشجاعة.. وأرادوا طمس صورتها وإزالتها من الذاكرة فحاصرتهم برسم فني عملاق لرسامين إيطاليين على طول الجدار العازل... إنها عهد التميمي الطفلة الفلسطينية ذات السبعة عشر ربيعا التي حملت مبكرا شأنها شأن كل أطفال فلسطين تحت قبضة الاحتلال حلم الحرية فواجهت القضاء الإسرائيلي، وواجهت أطوار محاكمة كشفت للعالم حقيقة القضاء الإسرائيلي، وإفلاس العدالة الاسرائيلية والدولية، وما يمكن أن تقترفه من ظلم واستبداد كيان يدعي أنه الاكثر ديموقراطية في الشرق الأوسط، في حق طفلة قاصر لم ترهبها الالة العسكرية لجنود الاحتلال، ولم ترتجف أمام جحافل الجيش الإسرائيلي، وتحولت في لحظات وهي تصفع جنديا على خده عنوانا للبطولة في زمن التخاذل والافلاس... عنوان المرحلة الراهنة في المشهد الفلسطيني المتصدع والمشهد العربي الهش والمشهد الدولي المرتهن للقوي على حساب الضعيف... مخطئ من يعتقد أن الاحتلال أفرج عن عهد بسبب ضغوطات دولية او اعترافا منه بالخطأ، فإطلاق سراح عهد جاء بعد انتهاء الحكم الظالم المسلط عليها ثمانية أشهر سجنا مع التنفيذ بعد محاكمة تابع العالم أطوارها وخبر معها عمق وحدود الافلاس الاخلاقي للجيش الاسرائيلي ولحكومة الاحتلال.. لم تكن عهد التميمي أول طفلة فلسطينية تتعرض للسجن ولن تكون حتما الاخيرة وأمثالها كثر، وقد اختارت عهد في أول تصريح لها بعد معانقتها الحرية - وهذا يحسب لها - أن تحذر العالم من معاناة عشرات الاطفال الفلسطينيين القابعين في السجون والمعتقلات الاسرائيلية لأن حكومة ناتنياهو تعتبرهم خطرا على أمنها واستقرارها وترى في أقلامهم وأدواتهم المدرسية وكتبهم وأصواتهم وحجارتهم قنابل موقوتة تهددها... عهد التميمي الطفلة الغجرية صاحبة الخصلات الذهبية لم تكن لتختلف عن أغلب أطفال فلسطين ممن خبروا ظلم الاحتلال وقهر قواته مبكرا، وقد تجاوزت شهرتها حدود فلسطينالمحتلة فتحولت الى رسالة عابرة للحدود تُحدّث العالم عما لا يريد الاحتلال سماعه، وتكشف لأمثالها من اطفال العالم وصناع القرار أن هناك شعبا لا يزال يواجه أحد أسوأ أنواع الاحتلال المستمر لهذا العصر.. ولعله من المهم التوقف عند المقال الذي نشرته غابي لاسكي وهي محامية اسرائيلية رافعت عن عهد وما ينتظرها مستقبلا لمواصلة معركة بدأتها مبكرا وهي التي تعترف بأن أشهر السجن الثمانية لم تحطم معنويات الطفلة البطلة عهد، ولم تؤثر على نفسيتها بل على العكس من ذلك فقد خرجت عهد أقوى مما كانت عليه في السابق... وتكشف محاميتها استخدام الشرطة الاسرائيلية أساليب عدوانية خلال التحقيق معها وهددوا باعتقال أقاربها وترويعها حتى تتوقف عن تحركاتها ضد الاحتلال ومع ذلك فقد صمدت ولم تستسلم للحظة... لم يكن بإمكان سلطات الاحتلال تجاهل هذه الفتاة الصغيرة النحيلة التي حركت السواكن وحازت بدعم وتعاطف قيادات وحكومات سياسية ومنظمات دولية لم تتأخر في الحضور لنقل فعاليات المحاكمة الاسرائيلية للطفلة التي وجهت صفعة لاحد الجنود ومن ثمة لجيش الاحتلال الذي ينتهك حرمة البيوت تحت جنح الظلام ويقدم على خطف واعتقال المواطنين الفلسطينيين الرافضين لسلطة الاحتلال وأحكامه ولعل الاهم في المظلمة التي تعرضت لها عهد التميمي أن الاحتلال الذي أراد التستر على جرائمه وانتهاكاته وجد نفسه تحت أنظار العالم حيث تمكنت عهد من تسليط الاضواء وجلب مختلف الفضائيات اليها والى المعاناة الفلسطينية اليومية... تقول المحامية الاسرائيلية «أن أعضاء الحكومة الاسرائيلية باتوا يعرفون في خفايا قلوبهم أنهم ارتكبوا خطأ عندما ضغطوا لاعتقال عهد وسجنها. لم يتمكن المقاتلون المسلحون، ولا المحققون الجامحون، ولا النظام العسكري المتحيز من تحطيم معنوياتها.» وتخلص غابي لاسكي الى أن الطائرات الأمريكية أو الغواصات الألمانية، أو اعتقال القاصرين الفلسطينيين، أو طرد العائلات لن تنجح في ايقاف أو مصادرة مطلب ملايين الفلسطينيين بالاستقلال والحرية والحياة بكرامة... وهنا مربط الفرس وأهمية المحنة التي تعرضت لها عهد التميمي والتي يفترض أن تكون منعرجا حاسما في المشهد الفلسطيني ولأنصار القضية الذين لم يروا في عهد التميمي غير تلك الفتاة اللبؤة الجريئة التي يريدون التقاط صورة معها والتعاطف مع ما تعرضت له والحال أن القضية أعقد وأخطر من كل ذلك... السلطات الاسرائيلية أدركت فظاعة وشناعة الجريمة وهي تسعى اليوم للحد من تداعيات ذلك على صورتها ومصداقيتها لدى شركائها في العالم، وهنا يفترض أن تتضح مسؤولية الاطراف الفلسطينية للاستفادة من هذه المحاكمة الظالمة والدعوة الى تحرير كل الاطفال الاسرى والسجون في المعتقلات الاسرائيلية ومنه أيضا الى خطورة ممارسات هذا النظام العنصري الذي يسعى لفرض قانون القومية الذي سيمنح قوات الاحتلال الحصانة المطلوبة لاستهداف كل من يتحرك ضد الاحتلال... جميل جدا أن يتسابق الجميع لاستقبال الايقونة المحررة والاحتفال مع عائلتها بهذا الانتصار المهم على طريق الحرية والكرامة بعد ثمانية أشهر من الاعتقال.. عهد التميمي التي تحولت اليوم الى رمز للقضية الفلسطينية اسم يضاف الى قائمة الاسماء النضالية الفلسطينية التي حملت القضية في دمها قبل حتى أن تتجاوز مرحلة الطفولة فهناك على أرض فلسطين يكبر الاطفال قبل الاوان ويتحملون المسؤولية مبكرا ويرفعون راية النضال قبل حتى أن يتقنوا فنون الكتابة والقراءة ورمي الحجارة...