مخطئ من يعتقد أن صفقة القرن لم تخرج من إطار المستندات والوثائق التي تضمنتها إلى أرض الواقع وواهم من يواصل التحذير من تداعيات صفقة يراها قادمة لا محالة ونراها تسير بشكل ممنهج على أرض الواقع ولعل التحذيرات التي ما انفكت تدق ناقوس الخطر بسبب ما خفي من هذه الصفقة تبدو في كثير من الأحيان مثيرة للشفقة والاستهزاء ذلك أن نظرة واقعية ومنذ كشف ترامب عن هديته الملغومة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والمؤشرات تؤكد أن إدارة الرئيس ترامب وفريقه المكلف بالشرق الأوسط وعلى رأسه صهره غاريد كوشنير يمضي قدما في تحويل هذه الصفقة إلى واقع.. بل لا شك أن إصرار الرئيس الأمريكي على أن يكون توقيعه رسميا على نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس التي تخضع للتدويل لم يكن بداية تنفيذ الصفقة بل كان النقطة التي جعلت الرأي العام الدولي ينتبه إلى هذه الصفقة التي انطلقت مبكرا منذ فوز ترامب بكرسي البيت الأبيض .. الواقع أن صفقة القرن سبقتها محاولات ابتزاز ومساومات علنية كانت ولا تزال حجر الزاوية في سياسة الخارجية الأمريكية ولعبة تجفيف المنابع ومقايضة الأطراف الضعيفة ودفعها للاختيار بين حقها المشروع وبين المساعدات المالية التي بدونها لن يكون بإمكانها البقاء والاستمرار. وهي سياسة الأقوى التي تعمد إلى اقتلاع الرئة الوحيدة التي تتيح للطرف الأضعف التنفس بل وتجعله في وضع الغريق المقيد الذي يلقى به في البحر ويطلب منه السباحة ... خيار المساومة والابتزاز اعتمدته الإدارة الأمريكية كلما تم التصويت في الأممالمتحدة على قرار يتعلق بالقضية الفلسطينية أو ينتصر للمطالب المشروعة للفلسطينيين وقد اتجهت في أكثر من مناسبة إلى ابتزاز الدول التي ظلت محافظة على موقفها من القضية الفلسطينية وبينها الدول الإفريقية والأمريكية اللاتينية لمقايضتها ودفعها للتراجع عن موقفها وإغرائها بالمال، وبلغ الأمر إلى حد التلويح بمعاقبة الدول التي تخرج عن إرادة واشنطن وتل أبيب خلال التصويت وحرمانها من المساعدات الأمريكية وهو ما أعلنته صراحة سفيرة واشنطن لدى الأممالمتحدة نيكي هيلي في أكثر من مناسبة وبلغ الأمر إلى حد تهديد الدول المعارضة لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وهو القرار الذي تجنبه الرؤساء الأمريكيون السابقون وظلوا يؤجلونه.. الواقع أن سياسة التجويع تبقى من الخيارات الديبلوماسية الابتزازية المعتمدة في مختلف الإدارات الأمريكية التي لم تحد عن دعمها وولائها للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ولكن الواضح أن إدارة ترامب اختارت القفز على كل الخطوط الحمراء . اليوم، وفيما تمضي واشنطن قدما في تنفيذ بقية بنود صفقة القرن فقد بات واضحا أن الهدف المطلوب سيكون الاونروا أو وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التي مر على وجودها أكثر من نصف قرن والتي تقدم الخدمات للفلسطينيين في المخيمات والملاجئ وهي خدمات مصيرية يعني إلغاؤها دون تقديم البدائل الحكم بالقتل البطيء والإعدام الممنهج لأكثر من ستة ملايين فلسطيني يعيشون على ما تقدمه الاونروا لهم من مساعدات غذائية وطبية ولكن أيضا من تعليم الفلسطينيين من مختلف الأجيال، وهو خيار كان ترامب أعلنه في حال أصر الفلسطينيون على رفض مشروع السلام الذي توصل إليه والذي يريد فرضه على الفلسطينيين وطي ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي نهائيا. وهو خيار كان يمكن مناقشته أو قبوله لو أنه وفر حدا أدنى من العدالة للفلسطينيين وضمن قيام دولة ذات سيادة من الضفة الغربية إلى غزة وأسس لسلام الشجعان الذي ينقذ شعوب المنطقة من حالة الحرب المستمرة منذ عقود ولكن شيئا من ذلك لم يحدث أو هذا على الأقل ما يمكن قراءته من العنوان الأبرز لصفقة القرن التي تتضح معالمها كل يوم أكثر والتي لم تكتف بالضغط على أصحاب القضية للتنازل عن الحق المشروع بل عمدت إلى سياسة التدمير والقتل البطيء بمنع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية وحرمان أبناء الأسرى والشهداء من الحصول على ما يمكن أن يساعدهم على مواجهة أعباء الحياة... وسياسة لي الذراع تتجه اليوم الى القضاء على الاونروا كخطوة باتجاه طي ملف اللاجئين ومعه ملف العودة وفرض سياسة التوطين على المهجرين في مناطق تواجدهم .. يبقى من المهم الإشارة الى أن الأخطر في تجفيف منابع الاونروا ليس في تجويع البطون و حرمان الملايين من الطعام، ولكن في حرمان الملايين من التلاميذ الفلسطينيين من فرصة التعليم ومن غذاء العقل خاصة وان أغلب التقارير الأممية تؤكد على تفوق التلاميذ الفلسطينيين رغم معاناتهم تحت الاحتلال عن كل التلاميذ في دول المنطقة وهو ما يعني تهيئة الأرضية لجيل غارق في الجهل والتخلف بما يخدم مصالح الاحتلال ويؤكد مجددا المخاوف من وجود شعب فلسطيني متعلم بل ووجود شعوب عربية معادية للجهل وقادرة على تحقيق أمنها الغذائي والمائي والأمني والتحكم في سلطة قرارها وسيادتها ...