لم تقتصر الدورة التأسيسية لأيام قرطاج لفنون العرائس بتونس على الورشات والعروض باعتبار أن برنامج هذه الدورة يتضمن أكثر من 50 عرضا مسرحيا لفن العرائس من تونس ومختلف البلدان المشاركة، بل أولت اهتماما بالجانب الفكري والعلمي لهذا الفن وذلك من خلال برمجة أيام دراسية دولية تحت عنوان تطور فن العرائس والتحديات الراهنة"، بغرض طرح توجهات المسرح العرائسي التونسي ووضعه في سياق تفاعلي مع التقنيات والممارسات المعتمدة في هذا النمط المسرحي على الصعيد العالمي من وجهة نظر تراثية أو على مستوى الإبداعات الحديثة والمتطورة، باعتبار انه ليس موجها للناشئة فحسب بل لا يزال يحظى بحب ومتابعة مختلف الشرائح العمرية. وقد احتضنت قاعة "صوفي القلّي بمدينة الثقافة صباح أمس جانبا من هذه الندوة التي تتواصل على امتداد يومين. وفي تقديمها للندوة أكدت مديرة الدورة حبيبة الجندوبي أن الهدف من تنظيم هذه الأيام الدراسية الدولية هو التوصل إلى بلورة رؤية ومقاربة بشأن فنون العرائس وذلك بالتوقف عند أبرز المراحل التاريخية لهذا الفن خاصة بالتركيز على بدايات القرن الحادي والعشرين وتناولها في شموليتها من ناحية وفي سياقات اجتماعية وسياسية وجغرافية موسعة من ناحية أخرى. والهام في هذه الأيام الدراسية الدولية أنها تفتح المجال للمشاركة والإطلاع على آراء وقراءات مجموعة من المختصين والمحترفين في فن العرائس من أكاديميين وباحثين وميدانيين من تونس ومن البلدان الأجنبية المشاركة نذكر من بينهم محمد مسعود إدريس المختص في تاريخ المسرح بالجامعة التونسية ونبيل بهجت جامعي وصاحب فرقة "ومضة" لفن العرائس بمصر إضافة إلى غريتا بروغمان من فرنسا باعتبارها سينوغرافية وعرائسية ومديرة فنية لورشة أرتيكال ومركز كان للتكوين بفرنسا فضلا عن حبيبة الجندوبي مديرة الدورة وسمية الفرشيشي أستاذة مسرح بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس. وقد تناولت هذه المجموعة جملة من المسائل التاريخية والفكرية حاولوا من خلالها تقريب صورة وخصوصيات هذا الفن خاصة أنه لا يزال بعيدا عن دائرة اهتمام القائمين على المشهد الثقافي بالشكل المطلوب. وذلك من خلال تناول مسائل متعلقة أساسا بتطور فنون العرائس عبر العصور ومكانة "العروسة" والفنان العرائسي في الفضاء العام إضافة إلى طرح طرق وآليات المحافظة على التراث العرائسي وصيانة حقوق الفنانين والمؤلفين الفكرية والفنية. وهو تقريبا العامل الذي يجعل هذه الندوة تحظى بمتابعة وحضور أعداد كبيرة من أبناء هذا النمط من الفن الرابع من مختلف اختصاصاته. إجماع على الفنية وتباين في التاريخية وقد أجمع كل المتدخلين في هذا اللقاء على مدى أهمية عالم "الماريونات" وخيال الظل وما عرفه من تطور في الشكل والمضمون والأهداف وذلك بالاستفادة من جملة من العوامل لعل أبرز ما شددوا عليه هو تعدد وتطور تتقنيات هذا الفن وتعددها وتوفر فرص التكوين وتوسع مجالاتها. فقد تطرق محمد مسعود إدريس في مداخلته إلى "مسارح خيال الظل في تونس بين الواقع والآفاق"، وبين أن هذا النمط الفني يعتمد على خلفيات ثقافية وهو وليد تنوع ثقافي وانفتاح بلادنا على حضارات وثقافات مختلفة معتبرا أن أصل نشأته كانت في القارة الأسيوية وتحديدا بالصين وبلدان وثقافات أخرى وهو ما تبينه الملابس والأولان وأشكال "العرائس". لذلك يعتبره فنا متميزا مستقلا وقائم ذواته الإبداعية الأمر الذي دفع اليونسكو للاهتمام به وحفظه واعتباره ثقافة سنة 2008 وتسجيل مسرح قبائل الصين سنة 2011. وأرجع سبب تميز هذا الفن إلى اختلاف وتعدد التقنيات المعتمدة فيه مما يجعله نمطا لا يمكن الحديث عنه في صيغة الفرد بل في صيغة الجمع. في جانب آخر من مداخلته أكد محمد مسعود إدريس أن حرص كل دولة على إبراز طابعها الخاص في هذا الفن خاصة من العوامل التي ساهمت في نشأة نواة فن العرائس في كل دولة خاصة منها البلدان العربية والإسلامية بالاستفادة من التجارب والرؤى الآسيوية من ناحية ومن تطور التجربة في الدولة العثمانية من ناحية أخرى ليرتقي هذا الفن في مرحلة متقدمة من القرن الماضي إلى ظاهرة اجتماعية. فلم يعد مرتبطا بالتهريج من خلال "الكاراكوز" الذي يعني في أصل تسميته "العيون السود". وتطرق أيضا إلى التناول التاريخي والبحثي لهذا الفن في تونس في القرن الحادي والعشرين من خلال تعداد البحوث والدراسات والمؤلفات التي صدرت وتمحورت حول فن العرائس وذكر على سبيل المثال محمد عزيزة وغيره فضلا عن تناوله لمراحل تطور الأعمال الخاصة بهذا النمط والنهضة التي حققها مع مطلع القرن الحالي. وأرجع ذلك إلى الاستفادة من تجارب بعض البلدان الأوروبية أساسا منها إيطالياوفرنسا. ف"الكاراكوز" لم يكن شأنا تونسيا فحسب، يوظف للتهريج ولعبة شعبية يأنس بها الجمهور في الأعياد وبعض المناسبات بل شكل شخصية نمطية خاصة بكل بلاد وثقافة على غرار "الأراغوز" في مصر. إذ كان عند الأتراك أداة لإبراز وإعلاء شان الحاكم وأصبح في بعض البلدان العربية بما في ذلك تونس ومصر وغيرهما آداة للترفيه من ناحية وآلية لنقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالأساس. وهو تقريبا ما أكدته الفرنسية غريتا بروغمان في مقاربة فكرية قدمتها تحت عنوان فن العرائس والفنون التشكيلية اعتمدت فيها على الصور واللوحات حاولت من خلالها إبراز مراحل تطور هذا الفن مستفيدة من انفتاحه على الفنون التشكيلية وتطور تقنيات الصناعة التي تعتمد على البحث والسعي للابتكار وإبداع طرق جديدة تتماشى ومتطلبات العصر. واستشهدت في ذلك بتجارب عديد الفنانين والحرفيين في بلدان أوروبية مختلفة كالسويد وإيطاليا وبلجيكا وفرنسا. مراجعة تاريخية من جانبه طرح نبيل بهجت مسألة تطور مسرح خيال الظل في مصر وخير الانطلاق من تجربته الخاصة بدءا بالطفولة مرورا بالتدريس في الجامعة وصولا إلى تأسيس فرقة "الومضة" في بداية القرن الحالي. واعتبر في تمسكه بخصوصية بلده وتوجيه ملكاته في هذا المجال لتقديم أعمال وإبداع اشكال وطرق جديدة ومتطورة من العوامل التي ساهمت في شهرة فرقته والإقبال الكبير على عروضها في العالم. مما دفع لاختياره ليكون ديبلوماسيا ثقافيا في سلطة بلده. وبعد توقفه عند الشروط والعناصر المكونة لهذا الفن، دعا الأكاديمي المصري الباحثين والمختصين في المجال إلى مراجعة التعاطي مع تاريخية خيال الظل والخلط الشائع فييما يتعلق بالأراغوز التركي والعربي. كما شكك في كون أصل نشأة خيال الظل آسوية. لذلك فهو يرى أنه على كل بلد أن يقدم اعمالا تعكس خصوصياته وعدم السقوط في استنساخ صور لنماذج وثقافات الآخرين المختلفة. لأنه يعتبر فن العرائس عنصرا اساسيا في تكوين شخصية الناشئة وليس مجرد أداة ترفيه وتسلية. علما أن الجزء الثاني من هذه الأيام الدراسية الدولية تسجل مشاركة ثلة أخرى من المختصين في المجال على غرار فاغالي شوينار من الكيباك بكندا بطرح مسألة "الماريونات واللغة العرائسية البديلة"، والتونسي هشام بن عيسى بطرحه "العرائس والوساطة" فيما يتناول الإيطالي روزاريو بيريكون مدير المتحف الدولي للعرائس بميلانو مسألة "من الأطراف الخشبية إلى يويو الافتراضي: صيانة وإحياء أشكال جديدة لتحقيق التراث الثقافي غير المادي".