طرح للنقاش في الاجتماع الأخير للجنة التربية والثقافية والفنون ببلدية بنزرت هذه الأيام موضوعان تعلق أحدهما بالبرمجة الثقافية للاحتفال بذكرى عيد الجلاء يوم 15 أكتوبر، وتعلق الثاني بمقترح يدعو إلى كيفية تخليد الحدث التاريخي المحلي والوطني والدولي، واستثماره في السياحة الثقافية، ويتمثل هذا الحدث في لجوء قسم كبير من الأسطول الروسي بشبه جزيرة القرم إلى بنزرت في ديسمبر 1920، هربا من بطش الجيش الأحمر، ويتكون هذا الأسطول الذي حل ببنزرت من 33 بارجة وسفينة تقل حوالي 6 آلاف بين ضباط ونوتية وعائلاتهم ممن تمسكوا بالولاء لروسيا القيصرية، وكان في الحسبان أن إقامتهم مؤقتة، وأنهم سيعودون إلى وطنهم قريبا، ولكن المؤقت أصبح دائما، واضطرت الجالية الروسية ببنزرت إلى تكييف وضعها حسب الظروف الجديدة، مع المحافظة بقوة على الثقافة الروسية لغة وفكرا وفنا وموسيقى وتراثا وعادات. وكان من المحتمل أن يلف النسيان هذه الفترة التاريخية، وأن تتلاشى من الذاكرة، لو لم تؤرخ إحدى الروسيات الشاهدات على العصر للمرحلة، بما أنها عاشت التجربة منذ البداية وهي في سن الثامنة، عندما ركبت صحبة أهلها الباخرة «قسطنطين» التي غادرت ميناء سيباستوبول إلى ميناء بنزرت في نوفمبر 1920، وعاشت إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهي أناستازيا شيرانسكي، تلك الحقبة التاريخية في كتابها الصادر باللغة الفرنسية « المرفأ الأخير»،وكان هذا الكتاب الذي صدر في التسعينات من القرن الماضي قد استأثر بالاهتمام من جديد ببنزرت هذه الأيام حتى أن نسخه قد نفدت وهو الذي لم يجد من قبل الا اقبالا محدودا. وللتذكير فقد قدم لهذا الكتاب الديبلوماسي التونسي المعروف أحمد ونيس، مبرزا التقاطع بين الذاتي والموضوعي في هذا الكتاب المفيد، ومؤكدا أن لانستازيا عشقين: عشقا لروسيا وآخر لبنزرت. وبين أنها رفضت الاعتراف بالدولة الشيوعية، ورضيت بوضعها كلاجئة ببنزرت وفاء لروسيا قبل الثورة البلشيفية من منطلق مبدئي، وظلت كذلك حتى فترة «البرسترويكا» ثم انهيار الاتحاد السوفياتي، لتسافر لأول مرة إلى روسيا، وتزور مسقط رأسها، وتلتقى بعض الجيران من كبار السن مثلها، وتؤلف هذا الكتاب. « تقول أناستازيا شيرانسكي بالصفحة 149 من كتابها في النسخة الفرنسية :»باكرا جدا صباح 23 ديسمبر 1920 تدخل -الباخرة- قسطنطين ميناء بنزرت. بعد مرورها أمام كاسر الموج المتضرّر كثيرا بلغم ألماني، إنها الآن تتقدم في القنال.. كنا جميعا على الجسر نتأمل المدينة الصغيرة النظيفة العتيقة الهادئة والتي لم يمر على بناء قسمها الأوروبي 25 سنة. والبعض منا سيهرمون معها». وفعلا فقد ألفت أناستازيا هذا الكتاب وهي في سن التاسعة والسبعين، لتجعل منه شهادة حية على العصر في بعض جوانبه، وإضاءة لبعض الفصول في تاريخ بنزرت خاصة وتونس عامة. ومع ذلك تبقى أناستازيا شيرانسكي، التي دفنت كما أوصت بمقبرة الأجانب ببنزرت، في ذاكرة تلاميذها الذين درستهم مادة الرياضيات، تلك الأستاذة المتميزة في أدائها وفي حرصها الكبير على مصلحتهم، في الوقت الذي يدعو فيه بعض القاطنين قرب الساحة التي تخلد اسمها ببنزرت إلى تجميل الموقع وتهذيبه وإنارته، بعدما صار قبلة للسياح، علما بأنه تم إنجاز فيلم وثائقي عن هذه المرأة النموذجية، كما أصبح بيتها متحفا يوثق لتلك الحقبة التاريخية، وتشرف عليه الطبيبة بالمستشفى الجامعي ببنزرت الدكتورة بوغدانوفا.