يحتضن المقرّ الفرعي لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، بتونس مساء اليوم 3 أكتوبر لقاء فكريا حواريا حول كتاب "تاريخ التكفير في تونس"، للأستاذ شكري المبخوت (منشورات مسيكيلياني لشوقي العنيزي، 2018)، حيث سيتمّ تقديم الكتاب، ليفسح المجال بعد ذلك لمناقشته والتعليق عليه، وللإشارة فإنّ هذا التأليف الذي انطلق كاتبه من رصد الأبعاد الدلالية لفصول الدستور التونسي الجديد (2014) ومن رصد ما حفّ بها من جدل وتعارض، عبارة عن عمل فكري نقدي أكاديمي حاول مؤلّفه رصد أهمّ لحظات أو وقائع التكفير التي شهدها مسار الفكر والثقافة في تونس أثناء القرن العشرين، وانعقد مدار مادّته المعرفية على تحليل ثلاث تجارب في الفكر والإصلاح الديني والسياسي، عبر دراسة سياقاتها الإشكالية على مستوى النظر والواقع، كما جسّمها زعماء ثلاثة، هم: عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحدّاد والحبيب بورقيبة، ومن هنا يذهب المؤلف إلى القول: "إنّ مقصدنا من هذا الكتاب أن ننظر في السياقات والأبعاد والأفكار والأبعاد والتفاصيل التي حفّت بالقضايا التكفيرية الكبرى في التاريخ التونسي. وتجمع مقاربتنا للمسألة بين سرد التاريخ في حبكة واضحة تكشف المنطق الذي يشدّ تفاصيل ما وقع والأطراف الاجتماعية المتصارعة من جهة، وتحليل الأفكار التي أدّت إلى تكفير هؤلاء من جهة أخرى"، وذلك بهدف الوصول إلى معرفة "الروابط بين هذا "الحكم الشرعي" في نظر المكفّرين (أي هم الذين رأوه وقالو به) والدوافع الظاهرة والخفيّة التي أفضت إليه". ذلك أنّ الوجه الحقيقي للتكفير يتمثّل، في نظر المؤلّف، في أنّه "فعل بشري يتلفّع في ضرب من التعالي عن بشريته بلحاف شرعي، يجهل فاعلية يد الله التي تنفّذ شريعته (من ثمّ يبدو من واجب) الدّارس أن يزيل القشرة ليصل إلى اللبّ السياسي"(ص15). ولئن اكتفت الدّراسة بالقرن العشرين وفجر الألفية الثالثة، في حين أنّ التكفير يمتدّ في أشكال مختلفة إلى قرون بعيدة خلت، فإنّ المقاربة التي حملها هذا التأليف جاءت طريفة وجادّة وعميقة، لا سيّما وأنّها قامت على توظّف أدوات البلاغة الجديدة ومفاهيم لسانية ودلالية ساعدت على كشف مدلول منطوق الخطاب وأظهرت خصائص سياقات تداول بنياته الدّالة، وتظهر وجوه الطرافة في استدعاء المؤلّف مفاهيم وتقنيات سردية ركّب استنادا إليها أحداث التاريخ ضمن معمار نصّي جديد، بدا أكثر وضوحا ودلالة، وهو ما أشارت إليه عبارته: "سرد التاريخ في حبكة واضحة...". في السياق نفسه صدر في الآونة الأخيرة في هذا العام (2018) بحث أكاديمي، وهو في الأصل رسالة دكتوراه أُعدّت في الّلغة والآداب العربية تخصّص "حضارة" أعدّها الباحث عبيد خليفي بإشراف الأستاذة آمال قرامي، وُسمت بعنوان: "الجهاد لدى الحركات الإسلامية من المعاصرة: من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية"، وصدر هذا التأليف بدوره عن مسكلياني للنشر والتوزيع. وقد امتاز هذا البحث العلمي بجرأة وعمق كبير يكشفا عن دراية وإلمام، وساعدا على إنجازتحليل دقيق لمستويات حضور مظاهر التكفير في خطاب حركات الإسلام السياسي والجهادي في العصر الحديث، إذ اعتمد التكفير وسيلة، في بعض الأحيان، تساعد على إقصاء الآخر ونفي كلّ شرعية عنه، ومن ثمّ تتمّ عمليّة إصدار فتوى الجهاد الذي هو في عمقه قتال بالسيف للمخالفين باسم الدّين. ولهذا افتتح صاحب الأطروحة عمله بالقول: "أنهار من الدمّ تُسفك كلّ يوم تحت راية الجهاد، وجماعة صحوة السيف تحتفي خلف راية العقاب بكلّ تفجير تسبقه صيحة الشهادة والفزع ونشوة الدمّ "الله أكبر"، لاشيء يمنعنا من الخروج من وقع الصدمة والذهول نحو وقع الفكر والتفكير بعقل مرتبك أحيانا، لنسأل عن الجهاد في دلالاته ورموزه وسيوفه وراياته، فلا شيء يمنعنا من المجازفة باختراق العقل الذي أنتج عنفا أهوج بيقين ديني مطلق". وقد توقّف الباحث مليّا (ص 93 ومابعدها) عند واقعة الرّدة وحكمها الشرعي الذي أنتجته المؤسّسة الدينية، لينتهي الأمر إلى تكفير المرتدّ أو من بدا كذلك ثمّ إصدار الفتوى بقتله، استنادا إلى أحاديث نبوية اختلف علماء الأمّة في صحّتها، ولم تقم بعد أدّلة بيّنة وبراهين ثابتة على صحّة ورودها وصدورها عن الرسول محمّد (ص)، وهو ما قاده إلى ضرورة دراسة "الردّة بين المشروعية الدّينة والمشروعية السياسية"... لقد بدأت الدراسات الحضارية ومناويل تحليل الخطاب في الجامعة التونسية على الأدق ضمن تخصّصات أقسام الآداب العربية (الحضارة) والعلوم الإنسانية (التاريخ، السوسيولوجيا، الانتربولوجيا)، تهتمّ بدراسة مدوّنة التراث الإسلامي ونقد نصوص الفكر الديني وأدبيات الإصلاح التي ظهرت فجر العصر الحديث، بحثا عن التباس الديني بالسياسي ورصدا للانزياحات السلبية التي أنتجتها وتنتجها القراءات المغرضة للنصّ المؤسّس (القرآن الكريم)، بوصفها قراءات آحادية الجانب، تأويلاتها ظاهرية،ناجمة عن قناعات إديولوجية جاهزة، هدفها إضفاء الشرعية على مقالاتها وإقصاء كلّ رأي مختلف، عملا على نسفه، ويجري ذلك بتبرير خروجه عن مقصد الشرع وضلالة صاحبه عن طريق الهدى، ومن ثمّ يظهر إمكان القول بتكفيره. وهو ما يعني أنّ "التكفير" ناتج عن صراع عميق مداره على اكتساب الشرعية والرغبة في امتلاك الكلام باسم الله، للسيطرة على الشأن الديني للمسلمين باسم شرعية يمكن أن تضفيها جماعات الإسلام السياسي والجهادي، على نفسها دون وجه حقّ من جهة الدّين أو العقل. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ "التكفير"بعد ثابت في خطاب أغلب الجماعات الدينيّة والفرق الكلامية (مذاهب العقيدة وأصول الدّين) منذ القديم، حيث تمّ الاستناد إلى منطق الفرقة الناجية انطلاقا من تأويل لحديث منسوب إلى الرسول (ص)، نصّه:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل من هي يا رسول الله؟ قال:"من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". وقد مضى عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفَرق بين الفِرقِ"، يفصّل ويفرّق بين فروع الفرق والمذاهب العقدية الكلامية، ويطرق أحيانا ما ينجرّ عن ذلك من أحكام فقهية شرعية جزئية، بحثا عمّا يمثّل الثلاث والسبعين فرقة، بأيّ وجه. لقد قَصَمَ هذا الحديث النبوي المنسوب– وهو الذي لم يرد أصلا في الصحيحين، وقيل أُخرج على شروط صحيح مسلم- ظهر الأمّة الإسلامية، وفرّقها شيعا ومذاهب تتناحر باسم شرعية متعالية، ما أدرك احد كنهها على الوجه الذي أراده الله، فكان منطلقا لدى بعض المذاهب والمتكلّمين باسم الشريعة لإشاعة التكفير بين أفرادها والتناحر بين مذاهبها، ومن ثمّ اعتمد من ضمن دعائم إباحة الاقتتال وسفك الدماء باسم الجهاد، وتحت راية شرعية لم تُثبت بعد وجاهتها بنصّ ثابت أو ببرهان عقليّ بيّن. وقد كان خطاب "التكفير" والحكم بالضلالة عبر تاريخ الإسلام وراء الإيقاع بأعلام من المفكّرين والأدباء والفلاسفة، سواء من قتل منهم أو من عُذّب ورمي به في أتون السجون والمنافي، أو شُرّد وهُمّش، هكذا كان مصير الحسين بن منصور الحلّاج وحكيم الإشراق السُّهروردي وابن رشد وابن الخطيب ومن قبل بشّار بن برد والجعد بن درهم الذي ذُبح يوم العيد كما تذبح الأضحية. وفي تونس ككلّ البلاد العربية والإسلامية رغم اعتدال مذهبها السنّي، وظهور علماء أفذاذ تنويرين بها، عرفت النخبة التونسية منذ عهود مبكّرة التكفير وواجهت الاتهام بذلك، فعانت من أحكام الإقصاء والمحاصرة والقتل باسم شرعية دينية، ألصقت إلصاقا بالنصّ المقدّس، والناظر في مصير رموز الفكر الاعتزالي وأعلام الصوفيّة كالإمام أبي الحسن الشاذلي بتونس، أو أعلام النظر العقلي كابن خلدون، وفي ما قام به فقهاء متشدّدون كابن البراء وأبي بكر السكوني، يلمس مدى حضور جذور التكفير في تاريخ الحضارة الإسلامية بالبلاد التونسية، وهو ما يدفع أكثر بالنخبة الأكاديمية اليوم إلى مزيد التفكير النقدي في قضايا "التكفير" وتنويع مناهج البحث العلمي في مقاربة مظانّه ودراسة منطلقاته وانعكاساته السلبية التي لم تتعلّق فحسب بالمصير المؤلم لأعلام الفكر والدّين، بل كانت وبالا أعاق تقدّم المعرفة والثقافة، ومن ثمّ عطّل رقيّ الحضارة وإعلاء شأن منزلة الإنسان. وهكذا فاليوم بعدما أحرزته الجامعة التونسية من تقدّم معرفي في مجال البحث العلمي في الآداب والعلوم الإنسانية، وقطعها أشواط مهمّة في الانفتاح على النظريات والمناهج الجديدة في تحليل الخطاب وعلوم النصّ ونقد الأفكار في ضوء ابستمولوجيا أكثر معقوليّة، ولطبيعة الواقع الذي نعيش حيث تكاثرت وجوه التكفير والجهاد، يجدر أن تتكثّف جهود الباحثين الجادّين من النخب الأكاديمية التي لا يحرّكها إلّا قصد إدراك المعرفة العلميّة الوجيهة، لأجل نقد خطاب العدم والتكفير الذي عانته النخب المثقّفة عبر التاريخ، ومن ثمّ الكشف عمّا يقع وراء راياته من دعوات، لا هدف لها إلّا القتل والإقصاء وتقديس الرأي الواحد ومقالة المذهب الواحد، ومن ثمّ إلغاء ثراء التجربة الفكرية والرّوحية الدّينية التي ميّزت حضارة الإسلام وجعلتها تدخل التاريخ العام للإنسانية جمعاء، في ما تقدّم، وتنال ضمن مساراته منزلة مهمّة.