وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    ترامب: قد أدعم وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل إذا سمحت الظروف.. مستعد للحديث مع طهران    «شروق» على مونديال الأندية رقم قياسي لميسي و بوتافوغو «يصفع» باريس سان جرمان    بين طموح التميز وشبح الإقصاء .. النموذجي... «عقدة » التلاميذ !    22 سنة سجناً مع النفاذ العاجل في حق الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وقيادات سابقة    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    الإعلامية إيناس الغرياني ل «الشروق».. وفاة أمي «صدمة»... دفعتني لدخول الإذاعة    حرب الاستخبارات تتوسّع بقصف قاعدة العمليات الرقمية: اختراق كاميرات المراقبة وكشف مواقع الموساد يربك الصهاينة    "الستاغ" تعتذر من حرفائها..وهذه التفاصيل..    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    بلاغ جديد من النجم الرياضي الساحلي    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    وزارة الصحة تجدد دعوة الأطباء المقيمين إلى اختيار مراكز العمل    الترجي يعود لزيه التقليدي في مواجهة مصيرية ضد لوس أنجلوس في كأس العالم للأندية 2025    قابس: أكثر من 250 مشاركا في الدورة 41 لمعرض قابس الدولي    طبربة: إيداع مربي نحل السجن من أجل تسببه في حريق غابي    صحتك النفسية فى زمن الحروب.. .هكذا تحافظ عليها فى 5 خطوات    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    هجمات اسرائيل على ايران: السعودية تحذّر.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يختم تربصه بإيطاليا بهزيمة ضد المنتخب الايطالي الرديف 3-1    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    النادي الإفريقي يعلن عن موعد الجلسة العامة الانتخابية    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    إيران تخترق كاميرات المراقبة الخاصّة بالإسرائيليين.. #خبر_عاجل    حملة لمراقبة المحلات المفتوحة للعموم بدائرة المدينة وتحرير 8 مخالفات لعدم احترام الشروط القانونية (بلدية تونس)    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    الأستاذ عامر بحببة يحذّر: تلوّث خطير في سواحل المنستير ووزارة البيئة مطالبة بالتدخل العاجل    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    عاجل/ سعيّد يكشف: مسؤولون يعطلون تنفيذ عدد من المشاريع لتأجيج الأوضاع    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الطّالبي والشّرفي:«الحقيقة والمنهج»* أصل الإشكالية وطبيعة أبعادها المعرفية (
نشر في الفجر نيوز يوم 30 - 03 - 2008

بين الطّالبي والشّرفي:«الحقيقة والمنهج»* أصل الإشكالية وطبيعة أبعادها المعرفية (1-2)
بقلم: د. محمد الكحلاوي
لقد قرأت كتاب الأستاذ محمد الطالبي "ليطمئن قلبي" (دار سراس للنشر) وطالعت أغلب الردود والمناقشات والتعليقات التي دوّت بشأنه لا سيّما ما نشر منها على أعمدة جريدة "الصّباح" الغرّاء، وراودتني فكرة الكتابة عن مسألة مهمّة يطرحها هذا الكتاب، تتّصل بالمقاربة التي رام الأستاذ الطالبي إنجازها حول مناهج العلوم الإنسانية وتطبيقاتها في مجال دراسة الظّواهر الدّينية

وطبيعة الاستنتاجات العلمية التي يتوصل إليها الباحث من جهة العلاقة بالمعتقد الدّيني، إثباتا أو نفيا، وهو جانب في تقديري على غاية من الأهميّة، لم يتفطّن إليه أغلب من كتبوا، غير أنّي كنت متردّدا لسببين رئيسيين:
الأول أن يؤول كلامي على أنه انحياز وتأييد لصاحب التأليف أو اعتراض عليه.
والثاني: أن سياق وضع كتاب "ليطمئن قلبي" لا يمكن اعتباره مطلقا وليد خلفية معرفية علميّة خالصة، بل يلتقي فيه الذّاتي بالموضوعي والعلمي بالإيديولوجي والدّيني الخالص بما هو غير ذلك.
غير أن ما حفّزني على الكتابة هو الرّد الذي كتبه الأستاذ عبد المجيد الشرفي (أحد أبرز من استهدفه نقد الأستاذ الطالبي وانتقاده في هذا الكتاب) ونشر على أعمدة جريدة الصباح يوم 23 مارس الجاري.
إنّ الغرض من هذه المقالة ليس حسم الأمر أو الانحياز لأحد الطرفين اللّذين ربطت بينهما صلة التعاون والزمالة والبحث والإشراف والمشاركات في الملتقيات الدولية باسم الجامعة التونسية، ونخبتها النيّرة لاسيّما في منتديات الحوار الإسلامي المسيحي لمدّة تقارب الأربعين سنة. إنما ما حفّزني على الكتابة في هذا الشأن هو استكناه الدّلالة القصوى والأبعاد المعرفية العميقة لكتاب "ليطمئنّ قلبي" وما حبّر حوله من ردود، وتستتبع ذلك الرغبة في تبيان انعكاسات مثل هذه المعركة، وما ينجم عنها من صدى في مستوى الدوائر الأكاديمية المنشغلة بالبحوث العلمية المتصلة بالدين والحضارة وقضايا الفكر الإسلامي وقراءة التاريخ، وبالتالي إدراك ما يمكن أن يتولد عن ذلك من قيم معرفية وروح علمية جديدة، يمكن أن تأخذ بها أجيال اليوم.
وذلك أهّم ما يدعو إلى النّظر والبحث بخصوص معركة كتاب "ليطمئن قلبي". خاصة وأن ذلك يتزامن مع مرور خمسين سنة أو ما يقارب على انبعاث الجامعة التونسية في هيئتها الأكاديمية العصرية إبان فجر الاستقلال وظهور الدولة الوطنية الحديثة. حيث تمّ الرّهان على حرّية البحث العلمي الأكاديمي ونزاهته، وإقرار مبدأ احترام النتائج والأفكار التي يتوصل إليها الباحث أستاذا أو طالبا متخصّصا في الآداب أو الإنسانيات أو العلوم الصحيحة، واشترط كلّ ذلك بضرورة مواكبة المفاهيم الجديدة التي تظهر في مجال النّظريات العلمية ومناهج البحث. ومن خلال ذلك- كما هو معلوم- انخرطت الجامعة التونسية في منظومة التعليم العصري من ضمن دول عربية قليلة كانت بدورها سبّاقة إلى ذلك. ومازال رهان الانخراط في المنظومة الجديدة مطلبا قائم الذّات تسعى أغلب النخب الأكاديمية الخلاّقة وسلطة الإشراف على تجسيمه بحسب الممكن، ووفقا للمتغيّرات الكونية وطبيعة أوضاعنا الدّاخلية وإمكاناتنا الذّاتية.
معارك لا بدّ منها، وإن تجيء متأخّرة زمنيّا
لقد كان من الممكن ، بل من الضروري في تقديري أن توجد مثل هذه المعارك والرّدود بين الجامعيين ذوي الطروحات والمشاريع الفكرية، منذ فجر السبعينات مثلا عندما بدأت الملامح الأولى لمسار البحوث والدراسات الجامعية تتشكل أو في طور التشكّل، وقد ظهر آنذاك نزوع لدى بعض الجامعيين إلى الانفتاح على المحيط ومحاولة التأثير في مجرى الحياة السّياسية والاجتماعية، وفي تفعيل ما يحدث ثقافيا. وقد احتاجت الدّولة الحديثة الناشئة آنذاك إلى إسهام الجامعيين في معركة البناء والتشييد، وسعت الجامعة بدورها أن تكون مرآة للتقدّم والتطوّر المنشود في سائر المجالات، ولعبت عديد الوجوه الجامعية أدوارا فاعلة في هذا السياق ليس هذا مجال تفصيل القول فيها. إن الثّابت في الأمر أن عشرية السبعينات وكذلك العشرية التي تلتها خلت أو كادت من الجدل العلمي بين الجامعيين ومن الاختلاف المعرفي العميق، ومن الرّدود والمعارك العلمية التّي هي ضرورية لتقدّم الفكر والبحث ولنهوض الجامعة برسالتها النبيلة. لعلّ المعارك التي ظهرت آنذاك من جنس المعارك السّياسية التي تترجم خلافات إيديولوجية ارتبطت بخيارات انتهى تأثيرها وبريقها مع تقادم الزمن.
ونادرا ما تقع مجادلات علمية جادّة تدون في كتب أو دوريات ومن اللافت للانتباه أن أكثر الشخصيات كانت أعماله موضوعا للنقد، وحتّى التّصويب والتصحيح أحيانا هو محمد الطالبي، فعندما نشر الطالبي تحقيقه لكتاب "الحوادث والبدع" للطرطوشي (أبو بكر محمد بن الوليد الأندلسي)(1). سنة 1959، كتب البحّاثة العربي والمحقّق الكبير الأستاذ صلاح الدّين المنجّد مقالا ينقد فيه تحقيق محمد الطالبي لهذا الأثر، ومما قاله صلاح الدين المنجد ناقدا لتحقيق الطالبي: "...وفي تراجم الإعلام اتّبع المحقّق (الطالبي) طريقة تدلّ على عدم تمكّنه من معرفة الرّجال (الصّحابة)، وطبع نص الكتاب دون ضبط الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط، والأعلام التي تشكل قراءتها وهذا ليس من المنهج العلمي في نشر النصوص"(2).. وكتب في الغرض نفسه الشيخ المختار السلاّمي المفتي السابق للجمهورية التونسية يقول: "لو أردت الكشف عن كلّ ما وقع فيه المحقّق (الطالبي) من أخطاء وبيان مآخذه ثم تقويم ذلك لكانت رسالة مطوّلة لا مقالا في مجلّة لأنّ المحقّق (الطالبي) يتعثر في كل خطوة يخطوها، ولا يستقيم إلاّ قليلا حتى يقع في سقطة أعمق من سابقتها مما يدلّ على أنّه بعيد عن فن التحقيق كل البعد أجنبي عن علم الشّريعة الإسلامية"(3).
ولعلّ مثل تلك الأخطاء والنقائص المشار إليها هي التي دفعت بعبد المجيد التركي إلى إعادة تحقيق كتاب الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي ووضع ضمن تحقيقه-في التقديم- مبحثا بعنوان: "قائمة في أخطاء الطالبي(4). من الرّدود العلمية الرفيعة على بعض تآليف الطالبي ومناقشاته الأخرى ما كتبه الرّاحل الشاذلي بويحي أحد الرواد الأوائل لانبعاث الجامعة التونسية بعنوان: "زيادة التعريف بالرقيق أو ردّ الشاذلي بويحي على مقال محمد الطالبي الذي عنوانه عودة إلى أبي إسحاق إبراهيم بن القاسم الرّقيق أو ابن الرقيق"(5). يقول الشاذلي بن يحي: "على أنّنا سنعرض هاهنا إلى النّقاط يحاجّنا فيها، نقطة نقطة حتى نبيّن أنّ نقدنا إيّاها كان لابّد منه، وأنّه نقد موضوعي وإنّ اتهاماته إيّانا لا أساس لها"(ص60).
وهكذا إلى أن ظهرت في السنوات الأخيرة معارك كثيرة، وردود تسعى أن تكون عميقة، وترفع شعارات البحث العلمي النزيه لوجوه وأسماء جامعية وثقافية أكثرها أنهى دوره الوظيفي الرّسمي (التدريس والتأطير). وغالبا ما تكون تلك الرّدود مترجمة لمواقف وتناقضات ربّما لم يكن من الممكن الإفصاح عنها سابقا، إمّا بسبب طبيعة المصالح، أو انطلاقا من اتّساع دائرة الحلم في توسيع مجال النّقود والتأثير والحظوة، وبالتّالي اجتناب ما قد يكون وراء تكاثر عدد الأعداد، أو ما قد ينجم عن ذلك من خصومات قد تعقّد مساعي تحقيق الأحلام وحصد النّجاحات. إنّ الأمر عندنا على عكس ما هو في الجامعات الغربية المتقدّمة أو بعض الكلّيات العربية الناسجة على منوالها مثل الجامعة المغربية حيث الرّدود العلمية والمناقشات المعرفية النزيهة تجري في كنف الهدوء والاحترام ابتغاء تقدّم البحث العلمي وتطوير إمكانات نجاعته، ومثال ذلك ردود طه عبد الرحمن على مشروع محمد عابد الجابري "في نقد العقل العربي" أو ردود محمد وقيدي على الكتابات الفلسفية لجيل الرّواد الأوائل من المعاصرين أو القراءات النقدية لكمال عبد اللّطيف على تآليف معاصرة في مجال الفلسفة والفكر السياسي والتّاريخي المغربي والعربي الحديث. بخصوص مؤلفات عبد المجيد الشرفي صدر قبل كتاب الطالبي المشار إليه أعلاه تأليف لمحمد لطفي اليوسفي تحت عنوان "القراءة المقاومة وبكاء الحجر"(6) موضوعه نقد كتابات عبد المجيد الشرقي وإرجاع ثمراتها المعرفية ونتائجها الفكرية إلى تآليف رموز جامعية وفكرية تقدّمته، ويؤاخذ عليه تأثره بالإستشراق في وجهه السلبي، وتتفيهه للّغة العربية باعتبارها "لغة ثقافة الماضي"، وغير ذلك من الاتهامات كالنرجسية وادعاء الإحاطة بعلوم ومعارف كثيرة. لكنّ ذلك فسّر لدى البعض بأنّه وليد خلافات شخصية غير أنّ هذا لا يعني الحسم في مسألة القيمة العلمية لهذا التأليف. وكتب عبد الرحمن حللي نقدا لبعض مؤلفات الشرفي نشره بمجلة الحياة الثقافية بعنوان: "قراءة في كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ"(7) وكتب محمد الحبيب السلامي ردّا بعنوان "لماذا أخطأ الأستاذ عبد المجيد الشرفي وأوقع غيره في الخطأ" نشر بمجلة "حقائق"(8).
أصل الخلاف ومشكلة الاحتجاج بالعلم
إن ما يتبادر إلى الذّهن، ويمكن أن يستنتجه القارئ الحصيف لكتاب "ليطمئن قلبي"، أنه جاء يطرح قضية المنهج وتطبيقاته في مجال الدراسات الدينية وآفاق هذه الدراسات فيما يتعلق بالإيمان الديني وقداسة المعتقد. لكنّ ما يلفت الانتباه أنّ هذا التأليف لمحمد الطالبي جاء متأخرا في الزّمن حتى بالنسبة لكتاب عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" الصادر عن دار الطليعة، بيروت منذ سنة 2001، وكأنّ كتاب الطالبي "ليطمئن قلبي" يبيح سرّا، أو يكفّر عن ذنب، أو يعلن بطريقة غير مباشرة عن تواطئه مع الخطأ إن كان موجودا.ذلك أنه أعرف الناس بكتابات الشرفي، وأشرف على البعض منها (الأطروحة). وظلّ الشرفي يتخذ منه أستاذا ودليلا إلى فترة قريبة نسبيا، فقد اعتمد منهجه على نحو من الدّقة في دراساته "حول الآيات 183- 187من سورة البقرة"(9). لقد أعلن عبد المجيد الشرفي منذ فجر السبعينات عن منحاه في دراسة قضايا الفكر الإسلامي والعلاقة بين الوحي/الكتاب والقراءات والتأويلات والرّدود المنجزة حوله تاريخيا، كما ترجمتها الفرق والمذاهب الفكرية الّدينية على امتداد التاريخ. واهتّم بدراسة حضور المسيحية في الثقافة العربية وردود علماء الدّين المسلمين على نظرائهم المسيحيين(10)، فهو قد ابتدأ الاهتمام بالمسيحية وحضورها في الثقافة العربية ليتجه بعد ذلك إلى الفكر الإسلامي ويسعى إلى إرساء تقاليد نقد أمهات مصادره في ضوء مفاهيم المعرفة الحديثة وأدواتها المنهجية. وكان يؤكّد في أغلب ما كتب على أنه يدرس تلك القراءات من منظور مناهج المعرفة الحديثة ومفاهيم العلوم الإنسانية المعاصرة من ناحية أولى وباعتبارها منجزا بشريا وتجربة تاريخيّة من جهة ثانية، وهدف الشرفي من ذلك الكشف عن "الحقيقة التاريخية"، والإبانة عن التأثير الذي يمارسه السّياق الاجتماعي السياسي على التفاسير والقراءات والاجتهادات الفقهية أو اللاّهوتية التي لا تعكس بالضرورة المقصد الأساسي لروح النص الدّيني (القرآن)، إنّما تعكس وجهة نظر المؤلف: الفقيه أو المتكلم أو المفسر وطبيعة انتمائه المذهبي. وهكذا كان عبد المجيد الشرفي في ما كتبه من بحوث ودراسات نشرت على الأخص في كتابيه "الإسلام والحداثة" و"لبنات" ناقدا لمختلف مدارس الفكر الإسلامي ساعيا إلى الكشف عن تاريخية شتى القراءات والتأويلات، مستدلاّ على انعكاساتها السلبية التي من أبرزها تعطيل حركة الفكر عن التقدّم، وبالتالي إلحاق شتّى النعوت السّلبية بالإسلام الذّي لا يعارض التقدّم والعلم، إنما الناطقون باسمه غالبا ما يكونون "أعداء للتحديث" ورافضين للانفتاح على كشوفات العلم والمناهج الحديثة، ويمارسون الإقصاء باسم امتلاك الحقيقة النهائية لتفسير النصّ الدّيني. وقد أكّد عبد المجيد الشرفي هذا المنحى في ردّه المشار إليه أعلاه حين قال: "إن في الإسلام ثلاثة مستويات يتعيّن عدم الخلط بينها: الأوّل هو مستوى النّص، والثاني مستوى تأويلات هذا النص التأسيسي الذي هو ركيزة الدين ومرجع وحدته، وتطبيقاته التاريخية، أما الثالث فمستوى الإيمان الشخصي المستعصي على التحديد والحصر والتنميط، (ويوضّح الشرفي قائلا): ونحن لا نهتم في دراستنا إلا بالمستوى الثاني من هذه المستويات (ويعلّل ذلك قائلا) لأنّه (المستوى الثاني) المستوى البشري النّسبي المتعدّد بتعدّد الأمكنة واختلاف الأزمنة والبيئات وغيرها من الظروف والعوامل" ويورد نموذجا لذلك فيقول: ومن أراد التأكد من ذلك فإننا نحيله على مجموعة البحوث التي أشرفنا عليها ونشرت ببيروت (دار الطليعة) تحت عنوان جامع "الإسلام واحدا ومتعدّدا".
وهنا نطرح تساؤلين الأول لماذا كان النموذج الذي استدلّ به الشرفي هو ما أشرف عليه من بحوث، وليس ممّا هو من تآليفه الخاصّة، صحيح أن ما يشرف عليه الشرفي غالبا ما كان صدى لآرائه وتصوّراته للمسائل المدروسة...
الثاني لماذا لم يبادر الشرفي إلى حسم الأمر بخصوص كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" وهو مدار الإشكال، وموضوع الاعتراض عليه. وقد شمل النقد والاعتراض على هذا الكتاب كل صفحاته بداء من أولها التي تضمنت تنصيصا على الصفة العلمية الشرفي "أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة العربية" وصولا إلى تصنيفه... ووصفه بالكفر والانسلاخ والاندساس مع الاعتراض على موقفه من النبوة ومفهوم ختم النبوة والكتاب والوحي ولغة القرآن وتدوينه وتاريخية التدوين والتأثر بمن تقدّمه ومن تأخره في تناول هذا الموضوع، صحيح أن الشرفي في ردّه تطرّق إلى قراءته بخصوص هذه القضايا والمسائل، لكنه لم يفصّل القول بخصوص قضيّة المنهج المعتمد في كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، وقد كشف عنه أو عن جانب منه في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، بما قد يتعارض في مستوى المعنى الكلّي مع تفصيله المذكور أعلاه، يقول الشرفي: "من هذه الوجهة سنحاول أن نطبّق على الإسلام نتائج البحث الحديث ومناهجه، ونحن واعون بأنه يشترك مع سائر الأديان، وخاصّة مع اليهودية والمسحية في الخضوع للنواميس والسنن العامة التي تطبع الظاهرة الدّينية" انظر كتابه (الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 13) الكلام صريح بخصوص المسعي إلى تطبيق مناهج البحث الحديث على الإسلام دون تمييز بين المستويات الثلاثة في بنيته كما جاء في الرّد.
لعلّ مثل هذا المنحى في دراسة الإسلام، وحيا ونبوّة وكتابا تصارعت بشأنه القراءات والتأويلات هو الذي أوقع الشرفي في مواقف واستنتاجات كثيرة رآها الطّالبي خروجا عن الإسلام، ودحضا لقداسته وتقويضا له من الدّاخل، إنه رغم تأكيد الشرفي على أن "الإسلام يختصّ...بميزات تجعله غير قابل للذّوبان في أي دين آخر" (المرجع نفسه ص13) ظل أسير منطق المماثلة في استخدام مباحث علم الدّين المقارن والفينيمولوجيا الدّينية La phénoménologie religieuse ويتّضح ذلك بدليل قوله مثلا "... وهو ما يحتّم النظر إلى ظهور الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي لا على أساس أنّه امتداد طبيعي للظاهرة الدينية التوحيدية التي عرفتها اليهودية والمسيحية فحسب، بل كذلك وفي الآن نفسه على أنّه تواصل للظّاهرة الدّينية عموما عبر التاريخ البشرى" (المرجع نفسه، ص 26). إنّ منطوق هذا الكلام يناقض وجهة النّظر الإيمانية التي ترى الإسلام/ القرآن كلام الله المنزّل-الذي لم يلحقه التبديل ولا التحريف، به تستقيم عقيدة التّوحيد و"تطمئن القلوب" لا باعتباره مجرّد امتداد لظاهرة الأديان التوحيدية عبر التاريخ، أو جاء في فترة استدعت بروز الإسلام، وظهور النبيّ محمد، يقول الشرفي: "... وبعبارة أخرى، كانت الفترة التّي ظهر فيها الإسلام، فترة تحوّل على مختلف الأصعدة، فترة شبيهة بالفترات التي تستدعي بطبيعتها بروز الأشخاص الذين يحملون أملا رحبا ويفتحون الآفاق المسدودة فكان محمد بن عبد الله هو الذي قام بهذه المهمة" (المرجع نفسه ص 29). ليس من ضرورة إذن لمزيد الخوض في بيان منطلقات مقاربة الشرفي التي انتهت به إلى ما اعتبره الطالبي "كفرا" أو "انسلاخا"، كما ليس من جدوى في التماس المخارج والمعاذير (بلغة علماء الإسلام القدامى من أجدادنا)، أنّ ما يجدر الاهتمام به في تقديري وهو ما يمثّل مدار الاشتراك بيننا جميعا أي ما يتعلق باستخدام مناهج العلوم الإنسانية ومفاهيم المعرفة الحديثة في دراسة الأديان وفق معقولية علمية خالصة، تفترض الإحاطة الدقيقة بالإشكاليات والمزالق التي قد تطرح في مستوى معرفي ابستمولوجي أو عند ما يتعلّق الأمر بالإيمان، وبكلّ ما هو من صميم جوهر المقدّس، والمعتقد الدّيني الحميمي الخاص، بعيدا عن التكفير والرفض أو التمجيد والاعتداد المبالغ فيه بجدوى المنهج. إن ذلك إشكال ابستمولوجي (علمي/معرفي) يتعلّق بمأزق العلوم الإنسانية الحديثة وصلتها بالفلسفة، وبتاريخها الذّاتي، وهو مجال بحث مهمّ لم تنجز بشأنه الدراسات العلمية اللاّزمة في ثقافتنا المعاصرة لدينا، وهذا ما من شأنه أن يوقعنا كل مرّة في مثل هذه الملابسات.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
*) الحقيقة والمنهجMéthode Vérité عنوان كتاب للفيلسوف الألماني هانز جورج غادميرH.G.Gadmet رائد نظرية التأويل الفلسفي وصاحب مشروع نقد فلسفي لمناهج العلوم الإنسانية في مقابل الرّهان على القراءات التأويلية في مجال الفلسفة ضمن ما يصطلح عليه ب"فن الفهم"، وقد استعرنا هذا العنوان رغبة منّا في محاولة الفصل بين ما هو ذو ماهيّة وجوهر محدّد وما هو من المنهج الذي قد يوقع في ما يمكن اعتباره خطأ أو مشكلا في الاستخدام.
1- صدر هذا التحقيق ضمن نشريات كتابة الدولة للتربية القومية بتونس، 1959.
2- صلاح الدين المنجّد، مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد6، ج 1 و.. ماي نوفمبر 1960.
3- انظر الشيخ محمد المختار السلامي، مجلة "العلم والتعليم"، العدد 11 السنة 1397ه/1977 تونس، ص 10.
4- صدر تحقيق عبد المجيد التركي عن دار الغرب الإسلامي، بيروت.
5- نشر بحوليات الجامعة التونسية.
6- محمد لطفي اليوسفي، القراءة المقاومة وبكاء الحجر، سكربيوس 2002 (صفحة 168).
7- عبد الرحمن حللي، "قراءة في كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، مجلة، الحياة الثقافية، تونس، العدد 129، السنة 26، نوفمبر 2001.
8-محمد الحبيب السلامي، "لماذا اخطأ الأستاذ عبد المجيد الشرفي وأوقع غيره في الخطأ"، مجلة، "حقائق"، تونس، العدد 808.
9- عبد المجيد الشرفي، "حول الآيات، 183-187 من سورة البقرة"، ضمن بحوث مهداة إلى محمد الطالبي في عيد ميلاده السبعين، منشورات كلية الآداب بمنوبة 1993، ونشر ضمن كتاب "لبنات" لنفس المؤلف دار الجنوب للنشر، 1994.
10- عبد المجيد الشرفي، "ردّ الفكر الإسلامي على النصاري"، الدار التونسية للنشر، 1988.
11- صدر عن دار المعارف، سوسة، 2006.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.