بدا موقف الرئيس الفرنسي من الرئيس الباجي قائد السبسي خلال مشاركتهما في اشغال القمة الفرانكفونية السابعة بالعاصمة الأرمنية أشبه ب"تأبين سياسي"، في إشارة لافتة الى ان الجانب الفرنسي لم يعد على نفس موقفه السابق من الباجي، الذي يبدو واضحا انه خسر حلفاء الامس بشكل غير متوقع وتراجيدي بعد ان خسر معركة الداخل لفائدة خصمه السياسي رئيس الحكومة يوسف الشاهد. كلمة الرئيس الفرنسي ماكرون اثناء حديثه عن تونس وعن رئيس الجمهورية والتي قال فيها "ان الباجي قائد السبسي رجل شجاع وامتداد للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي وضع تونس على سكة الحداثة والتعليم والتنوير وحقوق المراة "، تضمنت عبارات فخمة ذات وقع عال لا تقال عادة الا عند تأبين أحدهم، وكأن ماكرون أراد أن يوحي بأن الجهات الفرنسية لن تستعين بقائد السبسي في المرحلة القادمة، ولن يكون الرهان حول شخصه، فالاستعراض اللغوي لماكرون امام الرئيس التونسي كان أشبه بتلك الكلمات التي تقال اثناء استعداد احدهم لمغادرة العمل والخروج الى التقاعد حيث يكون التكريم هدية متواضعة على سنوات "العطاء". موقف يبدو أنه يتماهى بشكل كبير مع موقف السفير الفرنسي في تونس والذي اكد مؤخرا على ان المرحلة الراهنة تتطلب دعم حكومة يوسف الشاهد لاستكمال مسارها الاصلاحي، وإنهاء الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي رافقت الحكومة الحالية والحكومات السابقة لها. فكلمة ماكرون طرحت تساؤلا عميقا عن طبيعة الخطاب الذي توجه به: هل كان ذي طابع بروتوكولي بحت أم موقفا سياسيا؟ وهكذا سؤال أجاب عنه رئيس الجمهورية الذي يبدو انه فهم ما جاء على لسان نظيره الفرنسي بالقول في تصريح على قناة "فرانس 24" ردا على سؤال حول الوضع العام بالبلاد: "إذا تحب تتكلم على تونس مرحبا بيك في تونس.. أنا ما نتكلمش على تونس في الخارج"، وهو موقف يعكس ضمنيا التدخل الفرنسي في الشأن الوطني سيما وأن الحديث عن التوريث وسوء العلاقة بين الرئيس ونجله من جهة، ورئيس الحكومة من جهة أخرى، باتت أحد عناوين المتواترة في الاعلام الأجنبي وأساسا الفرنسي والذي يتابع بشكل مكثف تطورات الحياة السياسية في بلادنا. وعلى عكس الواقع السياسي حيث قامت قيادات ندائية بالترويج لخطاب ماكرون على انه "انتصار" للباجي قائد السبسي في حربه على الظلاميين - في إشارة الى الرافضين لقانون المساواة والحريات الذي اقترحه الرئيس يوم 13 أوت 2017 - فإن حقيقة الدعم الفرنسي لقانون المساواة ومحاولات الدفع به إلى مربع الموافقة العامة لتبنيه وتثبيته برلمانيا وسياسيا هو في الأصل مكافأة للباجي عن نهاية الخدمة. ففرنسا تدرك جيدا ان خروج الباجي قائد السبسي من الباب الصغير هو نتيجة لانتصاره لنجله وللعائلة على حساب الديمقراطية الناشئة والاستقرار، وهو عكس ما تمناه ورجاه رئيس الجمهورية نفسه، ويبدو واضحا ان الفرنسيين فهموا نفسية الباجي في ضمان الخروج من الباب الكبير وسيعملون على هذا الامر من خلال الدفع بالجميع، شخصيات وأحزاب، لتبني خيار الرئيس... كل ذلك مقابل ضمان الرئيس قائد السبسي لاستمرار الديمقراطية وأساسا اجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها. فالمسألة الديمقراطية لم تكن غائبة عن حديث ماكرون وهو دليل إضافي على ان الفرنسيين ليسوا براضين تماما عن اداء الرئيس الباجي قائد السبسي، خاصة موقفه الاخير من التوافق وفك الارتباط مع حركة النهضة، وهي النقطة التي كانت محل جدل واسع داخل تونس، ما جعل الرئيس يسارع ليؤكد على ان القطيعة بين طرفي الحكم "مؤقتة". وفِي هذا السياق أوضح قائد السبسي في حوار على قناة فرنس 24 على هامش مشاركته في قمة الفرنكوفونية "أنه ليس نادما على التحالف مع حركة النهضة". وأوضح رئيس الجمهورية أن التوافق ساهم في الاستقرار النسبي في البلاد، مضيفا "لست نادما على التوافق مع حركة النهضة". وبخصوص اعلانه مؤخرا نهاية التوافق بينه وبين حركة "النهضة"، قال رئيس الجمهورية "ما فماش توافق صالح لكل زمان ومكان"، وتابع "يمكن أن ينتهي التوافق في المرحلة الراهنة لينطلق من جديد في وقت آخر". وقد حاولت أطراف من داخل نداء تونس وبعض المحسوبين على الباجي قائد السبسي الترويج لهيبة "الباجي" شخصيا عبر التأكيد على الموقف الفرنسي خلال قمة الفرنكوفونية وهي المسلك الثقافي الوحيد الذي تنتهجه باريس لتأكيد "أولويتها" على عدد من عواصم العالم سيما مستعمراتها القديمة. فإقرار ماكرون "بديمقراطية" الباجي مثلا هي شهادة مجرح فيها، ففرنسا الاستعمارية لم تقدم اعتذارها الى التونسيين والجزائريين على المجازر التي ارتكبتها في حق شعبي البلدين، ولَم تعتذر عن استغلالها لسكان المستعمرات خلال حرب الهند الصينية. فقفاز الفرنكوفونية قد يلائم احفاد الاستعمار ممن تلذذوا كلمات ماكرون الذي يعاني سياسيا في فرنسا، كما انها بالتأكيد لن تعجب أبناء" الفلاقة" ممن يَرَوْن في باريس عاصمة استغلال القارة السمراء ومنهجها في "الحلب" المتواصل حتى بعد الاستقلال عبر عملائها او من يمثلها من "صبايحية"و"قوادة". خليل الحناشي