يفترض أن يكون هاجس المربي الأساسي داخل القسم هو تأمين سير العملية التعليمية على أكمل وجه بعيدا عن التجاذبات السياسية سواء كانت «نهضوية أم جبهوية» وغيرها من الإيديولوجيات السياسة الأخرى ما من شأنه أن يؤثر سلبا على شخصية وتكوين التلميذ وعلى جودة المنظومة التربوية برمتها. كما يفترض أن المربي هو بالأساس صاحب رسالة «نبيلة «هدفها الأسمى الارتقاء بقدرات التلميذ وتدعيم مكتسباته المعرفية داخل قاعات الدرس. هذا من الناحية النظرية، لكن من الناحية التطبيق، فإن الكثير من أولياء التلاميذ يقولون إنهم فوجئوا بأن بعض المربين قد اتخذوا من قاعات الدروس منابر لهم يسوقون من خلالها توجهاتهم السياسية. واستنكر العديد منهم هذه الظاهرة حيث أفاد بعضهم ل»الصباح» بأن تقرير بشرى بلحاج حميدة على سبيل المثال أضحى يسجل حضوره وبقوة داخل بعض المؤسسات التربوية من خلال استنكار بعض المربين لفحوى التقرير. وفي المقابل يجد نفس التلميذ الذي كان عرضة لتلقي «ميولات متشددة» أمام مربّ آخر يدعو إلى «اعتناق» قيم الانفتاح والتحرر ليجد نفسه حائرا ومتذبذبا إزاء قناعات وتوجهات مختلفة كان يفترض ان تكون قاعات الدرس في غنى عنها، لتقتحم بذلك الصراعات الإيديولوجية والسياسية الأقسام. صراعات تؤثر سلبا على شخصية وتفكير التلميذ كما تبتعد كل البعد عن أهداف المدرسة في صقل ونحت جيل يكون فاعلا في المستقبل، حتى أن البعض من المهتمين بالشأن التربوي وصفها بمثابة «الجريمة» في حق جيل جاء ليدرس وينهل من منابر العلم والمعرفة. جريمة في حق المؤسسة التربوية في قراءته للمسالة أورد الباحث في علم الاجتماع التربوي طارق بلحاج محمد في تصريح ل»الصباح» ان الاستقطاب السياسي من شأنه ان يعصف بما تبقى من جودة التربية مشيرا الى ان تحييد المؤسسة التربوية عن الدعاية السياسية وتصفية الحسابات السياسية والأيديولوجية هو الشرط الرئيسي للحفاظ على مدرسة عمومية محايدة وعادلة وحامية لمصلحة التلميذ الفضلى. وأضاف بلحاج محمد ان دور المربي يكمن في التدريس والتربية والتثقيف والمرافقة التربوية والنفسية وليس الانتصاب للحساب الخاص لاستدراج التلاميذ واستقطابهم وإسقاطهم في فخ المغالطات والاستقطابات على حد تعبيره. وقال في هذا الشأن: «إن استغلال الفصل الدراسي وسلطة المربي للدعاية السياسية والحزبية هو عمل غير قانوني وهو أيضا غير أخلاقي نظرا لأنه يستغل سلطة معرفية وأدبية دون وجه حق ومسلط على شريحة عمرية ينقصها النضج النفسي والاجتماعي والفكري للتمييز بين الأشياء وبالتالي فنحن إزاء جريمة مضاعفة: جريمة في حق المؤسسة التربوية والعمل التربوي وجريمة في حق جيل جاء ليدرس ليجد نفسه ضحية لتجار السياسة والايديولوجيا». وفسر محدثنا انه لطالما كانت المدرسة نظاما اجتماعيا أو وحدة في النظام الاجتماعي تؤمن التنشئة والحماية والشعور بالانتماء. وقد مرت المدرسة من بداية نشأتها وحتى وقتنا المعاصر بعدد من التطورات الكبيرة سواء على مستوى حجمها وهيكلها أو على مستوى العلاقات بين أفرادها أو من حيث أهدافها ووظائفها وأدوارها. وهذه التطورات كانت لها أثمان وضريبة أثرت على مستوى تماسكها وانسجامها، ومنها طغيان الفردانية والصراع بين الأجيال وسيادة الرهانات والمعاملات المادية على كل ما سواها من «قيم» جديدة جعلت منها بيئة توتر وصراع. وما زاد في توتير هذه العلاقات، هو ما تشهده تونس منذ سنوات من حالة استقطاب سياسي تجاوز الفضاء الاجتماعي والإعلامي والسياسي لينخر مؤسسة المدرسة التي تمثل آخر حصن للمجتمع في مناخ من الاضطرابات والهزات المتتالية. فإضافة إلى مفردات التفكك الأسري والأنانية والمادية ظهر متغير جديد زاد في تقسيم المجتمع، حيث أصبحنا نرصد توترات بين أفراد الأسرة التربوية مردها الانتماء السياسي والتعصب الحزبي والعقائدي والإيديولوجي. توتر أشار محدثنا إلى انه يمكن أن يصل إلى حدود المواجهات والقطيعة والعداء فضلا عن تغذيه خطابات سياسية محرضة وعقلية من التبعية والولاء لأشخاص يضعون انتماءاتهم الحزبية والسياسية في أولوياتهم قبل حتى واجباتهم المهنية والتربوية وولائهم للوطن قائلا: «هذه الظاهرة هي عنوان ومؤشر أزمة في الوعي وفي الممارسة، أزمة في السياسة وأزمة في المجتمع يغذيها السياسيون ليجدوا موطئ قدم لهم في المدرسة»... ليخلص الباحث في علم الاجتماع إلى القول بأن المدرسة التونسية مأزومة بطبعها بفعل التطور الاجتماعي وبفعل الأزمة الاقتصادية والقيمية الراهنة ومع دخول السياسة في أجندتها، وقد زادت هذه السياسة في تعميق أزمتها وما نشهده اليوم هو عنوان ضعف وهوان وعرض جانبي من أعراض الديمقراطية وليس بالديمقراطية، على حد تشخيصه، موضحا أنه في المجتمعات المتقدمة لا أحد يتسامح مع مثل هذه الممارسات ولا يخطر حتى ببال المدرس القيام بها، ليس خوفا من العقوبة فقط، بل لأن وعيه وحسه المواطني وإحساسه بالمسؤولية تجاه الأطفال تمنعه من ذلك... أما عندنا فالأمور ليست بهذه البداهة في إطار هذه الهستيريا الجماعية غير المسيطر عليها. دعوة للتنديد من جهة أخرى، وفي تفاعله مع هذه الظاهرة، أورد رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني في تصريح ل «الصباح» أنه من الضروري تحييد المدارس والتلاميذ عن كل التّجاذبات السياسية على اعتبار ان المدرسة فضاء للتعليم والتربية وكل خطاب يكون خارج الاطر المتعارف عليها يعتبر مرفوضا. ووجه المتحدث دعوة الى جميع الأولياء حتى يندّدوا بمثل هذه الممارسات على ان يتم تتبعها وفقا للأطر القانونية والإدارية المتعارف عليها. كما عبر الزهروني عن مخاوفه من بعض الأطراف السياسية التي قد تستغل الاستحقاق الانتخابي القادم المزمع إجراؤه في سنة 2019 وان ينعكس ذلك سلبا على الفضاءات التربوية، مشيرا الى انه يتعين عدم إقحام التلاميذ في صراعات وتجاذبات سياسية قائلا: «تدعو جمعية الأولياء الى تحييد أولادنا ومدارسنا عن كل ما هو تجاذب سياسي وإيديولوجي أيا كان مصدره». ليخلص المتحدث الى القول بأن جميع الإشكاليات التي تواجهها المدرسة العمومية اليوم هي رهينة تكوين جمعيات أولياء التلاميذ حتى يتسنى تحقيق التفاعل الايجابي مع المدرسة ومحيطها.