أودعت الحكومة مؤخرا بمكتب مجلس نواب الشعب، مشروع قانون أساسي للتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، يندرج ضمن استكمال مسار إرساء الهيئات الدستورية المستقلة. مشروع القانون الذي انطلق في إعداده منذ جوان 2016 بالاستعانة من خبراء ومختصين في مجال التنمية المستدامة، وكان محل استشارة من وزارات وهيئات وهياكل مجتمع مدني.. منح الهيئة صلاحيات استشارية واسعة، وجوبية في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية، واختيارية في مجالات ترتيبية أخرى.. بمعنى أن الهيئة لن يكون لها دور تقريري أو تعديلي في مجالات اختصاصها. لكن في المقابل ستزيد المهمة الاستشارية وزنا وقيمة في عمل الهيئة وأهميتها وما يصدر عنها من آراء وتوصيات من خلال الثقل التمثيلي الواسع ل»منتدى الهيئة» الذي يضم في عضويته جل الهيئات والمنظمات والأحزاب والجماعات المحلية المنتخبة. ويتعزز وزن الهيئة في إفرادها بصلاحية فريدة من نوعها تتمثل في تلقيها عرائض»مواطنية» موقّعة في مجالات اختصاصاتها.. مشروع القانون جاء في 44 فصلا موزعة بين خمسة أبواب، ميّز بين مهام الهيئة بشكل عام وبين صلاحيات الهيئة القانونية والدستورية.. في حين اهتم الباب الثالث من مشروع القانون وتحديدا في الفصول من 11 إلى 35 بتنظيم الهيئة من حيث تركيبتها (مجلس، منتدى، جهاز إداري) وشروط انتخاب مجلسها.. حدد مشروع القانون طبيعة مهام الهيئة في ثلاث محاور أساسية، المهمة الاستشارية وانتقى لهذا الغرض عبارات في الحقل الاستشاري مثل الحوار والنقاش والتشاركية، وفي هذا المجال ميز مشروع القانون بين الاستشارة الوجوبية في كل مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي كل مخططات التنمية، ودور استشاري اختياري في المسائل والنصوص الترتيبية ذات الصلة بمجال اختصاصها، ودور استشاري تلقائي تتعهد بمتقضاه الهيئة بإبداء الرأي في الاستراتيجيات والسياسات العمومية وكبرى المشاريع والبرامج الوطنية.. كما تتمتع الهيئة بمهمة تثقيفية، ومهمة استشرافية مثل اعداد دراسات وخطط إستراتيجية في مجال نشاطها وعملها تقترحها على السلطات المعنية. نص مشروع القانون في فصله الرابع على أن الهيئة «تساهم في دعم الديمقراطية التشاركية بتوفير إطار للتشاور والنقاش في المسائل المتعلقة بمجال اختصاصها مع الجمعيات والأحزاب والهيئات المهنية وممثلي الجماعات المحلية بمناسبة اعداد السياسات العمومية ومخططات التنمية واستراتيجيات وبرامج التنمية المستدامة. وتضع الهيئة في إطار ممارسة مهامها آليات من أجل تشريك واسع للجهات المعنية وللمجتمع المدني بما في ذلك تنظيم استشارات وطنية وحلقات نقاش عامة وقطاعية حول المواضيع الراجعة لها بالنظر.» وأفرد الفصل 6 مهمة حفاظ الهيئة على»تطلعات الأجيال القادمة»، وعلى»حماية حقوقهم وخاصة منها الحق في موروث ثقافي وفي رصيد حضاري وفي هوية وطنية والحق في بيئة سليمة ومتوازنة وفي مناخ اقتصادي واجتماعي مستقر وفي موارد وثروات طبيعية مستدامة تلبي حاجياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتضمن لهم استمرارية الحياة الآمنة...» صلاحيات استشارية واختيارية في القسم المتعلق بالصلاحيات، أفرد مشروع القانون للهيئة صلاحية الاستشارة الوجوبية «في مشاريع القوانين ذات العلاقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مخططات التنمية الوطنية والجهوية والوثيقة التوجيهية للمخطط والميزان الاقتصادي وتقارير متابعة المخطط التنموي». وللهيئة حق إبداء الرأي في أجل أقصاه شهر ابتداء من تسلمها الاستشارة بالنسبة لمشاريع القوانين وثلاثة أشهر بالنسبة إلى بقية الوثائق والمخططات والتقارير». ونص الفصل 7 على «وجوبية» إرفاق مشاريع القوانين المتعلقة بمجال تدخل الهيئة عند إحالتها على مجلس نواب الشعب برأي الهيئة ويكون مصحوبا بتعليل الجهة المستشيرة في صورة عدم أخذها به، ويسري نفس الإجراء على بقية المخططات والوثائق والتقارير عند إحالتها على مجلس نواب الشعب.» وتنتهي «الوجوبية» أو الإلزامية وتعوض ب»الإمكانية» في الفقرتين الأخيرتين من ذات الفصل، اللتان تتحدثان عن «إمكانية» استشارة الهيئة من قبل السلط العمومية في المسائل ومشاريع النصوص الترتيبية المتصلة بمجال اختصاصها، و»إمكانية» استدعاء رئيس الهيئة أو من ينوبه من قبل مجلس النواب لشرح رأي الهيئة. كما أفرد مشروع القانون في الفصل الثامن صلاحية إبداء الهيئة لرأيها «تلقائيا» في المسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي كل الوثائق التوجيهية أو الإستراتيجية التي تخص السياسات العمومية أو البرامج أو المشاريع الوطنية الكبرى أو الاتفاقيات والبرامج الإقليمية والدولية..». وألزم مؤسسات الدولة ب»تسيير عمل الهيئة وتمكينها من النصوص والوثائق التي تطلبها للاضطلاع بمهامها». كما يمنح مشروع القانون للهيئة صلاحية اقتراح «الإصلاحات» التي تراها ملائمة على السلطتين التشريعية والتنفيذية وعلى المجلس الأعلى للجماعات المحلية، فيما يتعلق بالمواضيع المندرجة ضمن مشمولاتها. ومنح الفصل التاسع للهيئة مهمة القيام ب»دراسات وبحوث في مجال اختصاصها أو طلب انجازها».. عرائض مواطنية ومن بين الصلاحيات اللافتة التي تختص بها هيئة التنمية المستديمة دون سواها إمكانية تلقيها لعرائض «مواطنية» في المسائل المندرجة ضمن اختصاصها، تتضمن على الأقل 5 آلاف إمضاء لمواطنين تونسيين، التي تنظر في العريضة في اجل لا يتجاوز الشهرين من تاريخ إيداعها وتبدي الرأي في إمكانية تبنيها وإحالتها على الجهة المعنيةّ.» هذا الفصل فريد من نوعه في المنظومة التشريعية التونسية، إذ يقر اعتماد العرائض الممضاة كآلية قانونية جديدة تعتمد في تونس ما بعد الثورة، فهو يمتاز بكونه من بين القوانين النادرة التي تتحدث عن تشريك المواطنين في الحياة العامة.. ودائما في باب الصلاحيات، أقر مشروع القانون في الفصل 11 نشر الهيئة لكل الآراء التي تبديها بموقعها الالكتروني في أجل لا يتجاوز 15 يوما من تاريخ إحالتها على الجهات المعنية، وان تنشر آراء الهيئة بخصوص مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية أو بمخططات التنمية بنفس العدد من الرائد الرسمي للجمهورية التونسية المتضمن للقوانين المصادقة عليها. اهتم مشروع القانون في بابه الثالث بتنظيم الهيئة من حيث تركيبتها (مجلس، منتدى، جهاز إداري) وشروط انتخاب مجلسها. إذ ينص الفصل 12 على ان تتكون الهيئة من مجلس، ومنتدى، وجهاز إداري. ويتركب مجلس الهيئة من ثلاثة أعضاء فقط، وهم من الشخصيات الوطنية ويتم انتخابهم من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية الثلثين لمدة 6 سنوات غير قابلة للتجديد. من بين المترشحين المستجيبين لشروط معينة، خاصة منها الإشعاع الوطني، الخبرة في مجال القانون أو الاقتصاد أو العلوم الاجتماعية أو الإنسانية لفترة لا تقل عن 20 سنة، الكفاءة العالية في مجالات اختصاص الهيئة مدعومة بالقيام بدراسات وبحوث منشورة أو المشاركة فيها أو الإشراف عليها. إضافة إلى شروط الجنسية التونسية والتمتع بالحقوق المدنية والسياسيةّ، والنزاهة، ونقاوة السجل المهني والعدلي.. منتدى ضخم اما منتدى الهيئة فهو يتكون - وفقا للفصل 25 من مشروع القانون- من أعضاء مجلس الهيئة، ومن أعضاء يعينون بقرار من رئيس الهيئة لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. الملاحظ أن منتدى الهيئة يضم في عضويته عددا ضخما من ممثلي الأطراف الاجتماعية والهيئات المهنية والمنظمات الوطنية، والمؤسسات والمنشآت العمومية فضلا عن عضوية ممثلي الجماعات المحلية والأحزاب (الممثلين بالبرلمان) والجمعيات والخبراء. بما يعني حسابيا، يتكون المنتدى من أكثر من 540 عضوا وهو بالتالي سيكون أكبر هيكل في تونس على الإطلاق يضم عددا كبيرا من الأعضاء المنتخبين او الممثلين بالصفة.. ويتفرع المنتدى إلى لجان مختصة قارة، ويجتمع مرة كل ثلاثة أشهر على الأقل بدعوى من مجلس الهيئة، لدراسة المسائل المدرجة في جدول أعماله.. علما أن أعضاء المنتدى يتقاضون منح حضور تضبط مقاديرها وطريقة صرفها بأمر حكومي. ويتكون منتدى الهيئة من ممثلين عن الأطراف الاجتماعية (المنظمات النقابية الأكثر تمثيلا للشغالين (8 أعضاء) والمنظمات النقابية الأكثر تمثيلا للعراف (8 أعضاء)، والهيئات المهنية (اتحاد الفلاحين (4 أعضاء)، وعضو واحد عن هيئات ومنظمات: المحامين، الأطباء، الصيادلة، المهندسين، الخبراء المحاسبين، المنظمات الأكثر تمثيلا لقطاعات التأمين، والبنوك، والنزل). وعضو وحيد عن المؤسسات والمنشآت العمومية وعددها 32، ورئيس المجلس البلدي لكل بلدية مركز ولاية أو من ينوبه بصفته عضوا، وعضو عن كل حزب سياسي او تحالف انتخابي ممثل في البرلمان من غير النواب، فضلا عن عضوية 12 جمعية مثل اتحاد المرأة، اتحاد المكفوفين، الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي، الهلال الأحمر، والجمعيات الناشطة في مجالات حقوق الإنسان، والبيئة، المرأة، حماية المستهلك، وفي المجالات التربوية والثقافية والطفولة والشباب وحماية ذوي الإعاقة، والمجالات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى عضوية خبيرين في 8 اختصاصات مختلفة مثل البيئة والتنمية المستدامة، التغيرات المناخية، التهيئة والتعمير، علم الاجتماع وعلم النفس، العلوم الاقتصادية والاجتماعية، علوم الإعلام والاتصال..