ألقت الأزمة السياسية الخانقة التي تتخبط فيها البلاد منذ مدة طويلة بكل أثقالها داخل قبة البرلمان.. ففي قرار مفاجئ أعلنت كتلتا نداء تونس والحرة لحركة مشروع تونس أمس خلال جلسة عامة بجلس نواب الشعب عن تعليق اعمالهما وحضورهما في الجلسات العامة، وانسحب نواب الكتلتين من القاعة في حركة احتجاجية على مطلب هيئة الحقيقة والكرامة بإعادة محاكمة مسؤولين سابقين. وأشار محمد الفاضل بن عمران النائب عن نداء تونس إلى انه سبق لمجلس نواب الشعب ان صادق في جلسته العامة بتاريخ السادس والعشرين من مارس الماضي على ايقاف نشاط هيئة الحقيقة والكرامة وعلى عدم التمديد لها بعد 31 ماي 2018، لكن ما راعهم الا أن الهيئة مازالت تواصل أعمالها كما تمت العودة من جديد الى المحاكمات. وذكر ان مجلس نواب الشعب وجه مراسلة الى رئيس الحكومة لإعلامه بحصيلة الجلسة العامة المخصصة للتصويت على التمديد للهيئة، وأبدى بن عمران استغرابه من رئيس الحكومة: فكيف له ان يعبر عن تضامنه مع أحمد فريعة في حين ان هناك اتفاقا بين الحكومة وهيئة الحقيقة والكرامة لكي تواصل الهيئة أعمالها؟. ولم يخف النائب حيرته من ازدواجية خطاب رئيس الحكومة، وأضاف انه يشاع ان المراسلة التي وجهها رئيس المجلس للحكومة لم تكن واضحة لأنه تم الاكتفاء فيها بالإعلان عن نتيجة التصويت. ولتصحيح الوضعية طالب بن عمران مجلس نواب الشعب بأن يقول بوضوح ان نشاط الهيئة توقف بقرار من المجلس. وبين انه في كل الحالات الحكومة مدعوة الى توضيح سبب عدم تنفيذ قرار المجلس القاضي بعدم التمديد للهيئة، وذكر ان كل ما تقوم به الهيئة حاليا مخالف للقانون وغير اخلاقي وكان عليها ان تلتزم بقرار الأغلبية في مجلس نواب الشعب. وطالب بن عمران رئيس المجلس بالتصدي لعملية خرق قرار الجلسة العامة، واقترح عليه توجيه دعوة عاجلة الى رئيس الحكومة لكي يوضح سبب الاضطراب في مواقف الحكومة حيال الهيئة. وكانت كتلة نداء تونس أصدرت يوم الاثنين الماضي بيانا عبرت فيه عن انشغالها الكبير بإعادة محاكمة مسؤولين سابقين في الدولة من أجل نفس الأفعال بطلب من هيئة الحقيقة والكرامة المنتهية مدتها وصلاحياتها بمقتضى قرار تشريعي، وفي مخالفة صارخة لكل القوانين المقارنة والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للأمم المتحدة، والذي جاء فيه أنه لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو العقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو بُرّئ منها.. وحملت الكتلة في بيانها الحكومة مسؤولياتها حيال التجاوز الخطير لقرار السلطة التشريعية بعدم التمديد للهيئة، كما حملتها مسؤولية توقيع الوزير السابق للعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان مهدي بن غربية على بلاغ مشترك بتاريخ 24 ماي 2018 مع رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة. وفي نفس السياق بين محمد الطرودي النائب عن كتلة الحرة لحركة مشروع تونس أنه أمام تواصل تعنت هيئة الحقيقة والكرامة وخرقها للقانون ولقرار مجلس نواب الشعب بعدم التمديد لها وأمام التجاوزات التي ارتكبتها هذه الهيئة التي ستقوض مسار المصالحة، فإن كتلة الحرة لحركة مشروع تونس تعتبر أن هذه الممارسات من شأنها ان تبث مناخا من الحقد. وذكر الطرودي ان كتلته قررت تعليق نشاطها حضوريا في المجلس الى حين اصدار موقف في شكل قرار من رئاسة مجلس نواب الشعب وإلى حين قيام الحكومة بتوضيح وجهة نظرها. وكانت كتلة الحرة لحركة المشروع بادرت بدورها بإصدار بيان للتعبير عن انشغال نوابها بما تقوم به هيئة الحقيقة والكرامة من ممارسات غير قانونية ولا أخلاقية، اذ يرى نواب هذه الكتلة أن الدستور كان واضحا وجليا وأنه حصر منظومة العدالة الانتقالية في فترة أربع سنوات لا غير انتهت في 31 ماي 2018. وهذه المنظومة تشمل الهيئة والدوائر القضائية الاستثنائية المرتبطة بها، وقد سبق لمجلس نواب الشعب ان رفض في جلسة 26 مارس 2018 التمديد في هذه الفترة، وطالبت الحرة بالتمسك بالدستور وبتنفيذ قرار مجلس نواب الشعب ووقف كل ما يجري من أعمال باسم العدالة الانتقالية، والعودة الى العدالة العادية واحترام اجراءاتها. وطالبت برفع إجراءات تحجير السفر وأية إجراءات أخرى في انتظار التخلي لفائدة القضاء العادي. كما حذرت من مغبة المواصلة في خرق الدستور والعصيان الذي تقوم به الهيئة وضغوطها على القضاء. كما دعت الكتلة الى تكاتف الجهود من اجل انهاء حالة الاحتقان والكف عن الممارسات الانتقامية والانتقائية، حتى تتحقق المصالحة الوطنية التي أصبحت منظومة الحقيقة والكرامة العائق الفعلي لها. «استقيلوا إن أردتم»... تفاعلا مع إعلان كتلة نداء تونس عن تعليق اعمالها وحضورها في الجلسات العامة لمجلس نواب الشعب، قالت يمينة الزغلامي انه من حق نواب النداء الانسحاب او تعليق نشاطهم او الاستقالة، فتلك هي الديمقراطية وهم أحرار. وذكرت ان هناك من لا يريدون عدالة انتقالية ولا يريدون محاسبة ولا يريدون حقوق الانسان، وبينت أنه اذا أراد البعض العودة الى الوراء فإن النهضة مستعدة الى العودة وهي قادرة على ذلك. وذكرت الزغلامي بأن النهضة ورغبة منها في طي صفحة الماضي مررت معهم قانون المصالحة والعفو الاداري عن العديد من التونسيين المتورطين في الفساد، واليوم وفي اطار قانون العدالة الانتقالية سيمثل البعض امام الدوائر القضائية المتخصصة، ومن المفروض الا يتم التدخل في القضاء، كما انه من المفروض على كل تونسي يمثل أمام الدوائر المتخصصة أن يعتذر للتونسيين عما ارتكبه في حقهم من انتهاكات. وخاطب نور الدين البحيري رئيس كتلة النهضة نواب الحرة والنداء قائلا: «إن التونسيين انتخبوا النواب لكي يقوموا بواجباتهم لا لكي يعطلوا المجلس». وذكر أنه يتفهم الخلافات السياسية الموجودة لكنه يعتبر ان كل نائب عندما أقسم على الولاء للوطن من المفروض ان يمتنع عن كل ما يمكن أن يمس استمرارية عمل المؤسسات، وأضاف ان التجاذبات السياسية يجب ألا تدفع النواب لتهديد مستقبل البلاد، وقال إنه كان يتمنى ان يدرك البعض أن هناك آلاف الضحايا مازالوا ينتظرون استرداد حقوقهم ورد الاعتبار لهم. وأشار البحيري الى ان النهضة ذهبت الى المصالحة من اجل وحدة البلاد، وبين ان قرار الانسحاب هو قرار خاطئ ومن شأنه أن يمس بوحدة الدولة. «لا لجعل مجلس نواب الشعب رهينة أيّ كان» أما مصطفى بن أحمد رئيس كتلة الائتلاف الوطني، فبيّن انه كان يعي خطورة ممارسات سهام بن سدرين، ونبه الى وجود خلط متعمد بين سهام بن سدرين ومسار العدالة الانتقالية. وذكر أن بن سدرين هي أكثر إنسان أضر بالعدالة الانتقالية، وفسر بأنها صرفت المليارات لكن الضحايا لم يحصلوا على حقوقهم والمصالحة لم تتحقق. وأضاف بن أحمد -وكان على درجة كبيرة من الغضب- أنه يجب على المجلس تحمل مسؤولياته، وأن يحرص على تطبيق القرار الصادر عن الجلسة العامة، واقترح عقد جلسة خاصة يتم خلالها إصدار قانون يبطل كل الاحالات التي تمت بعد 31 ماي. وبيّن انه يجب الابتعاد عن خطب تصفية الحسابات، وأضاف معقبا على النائب محمد الفاضل بن عمران أن من يريدون جلب رئيس الحكومة الى البرلمان ليس لتوضيح موقف من هيئة الحقيقية والكرامة بل لتصفية حسابات مع الحكومة. وقال رئيس كتلة الائتلاف الوطني «لا وألف لا لجعل مجلس نواب الشعب رهينة أيّ كان.. فالمجلس ليس ملك كتلة برلمانية أو حزب سياسي». وبين شفيق العيادي النائب عن الجبهة الشعبية ان التطرق الى قضية العدالة الانتقالية هو شماعة للازمة السياسية التي تعيشها البلاد بعد الطلاق الذي حصل بين النداء والنهضة. وذكر انه على التونسيين ان يعرفوا حقيقة من يمسكون بالحكم، فهم لم يتخاصموا على مصلحة التونسيين بل على مسألة هي اليوم من انظار القضاء. وذكرت سامية عبو النائبة عن الديمقراطية ان ما يحصل من إشكال حول العدالة الانتقالية مرده محمد الناصر رئيس المجلس لأنه يوم الجلسة العامة المخصصة للتصويت على طلب التمديد للهيئة اعلن عن نتيجة التصويت ولم يعلن عن قرار الجلسة. ووصفت عبو تلك الجلسة بالباطلة وذكرت ان من يقول ان الهيئة فاشلة عليه ان يدرك أنه ليس هناك أفشل من الحكومة التي يدافع عنها، وقالت ان من لا يريدون تطبيق قانون العدالة الانتقالية يتباكون اليوم على بعض المسؤولين السابقين لكنهم لم يبكوا عندما سقط 300 شهيد بالرصاص أيام الثورة. وقال الحبيب خضر النائب عن النهضة ان القرار الذي وصل اليه مجلس النواب بخصوص عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة معدوم اصلا. وذكر ان الجلسة العامة المخصصة للتصويت على التمديد تمت في اطار تجاهل قانون العدالة الانتقالية والنظام الداخلي، كما ان التصويت لم يكن بالأغلبية المطلوبة ولم يقع الاعلان عن القرار. واستغرب خضر من نواب النداء والحرة كيف يتحدثون عن قرار عدم التمديد للهيئة وبين ان قرار التمديد مخول للهيئة دون سواها، وأضاف أن من يرى ان هناك اخلالا يمكنه ان يتوجه الى القضاء الاداري، فهو الفيصل... وانتقد ما وصفه بالتدخل الفج في السلطة القضائية. وأبدى سمير ديلو النائب عن نفس الكتلة من جهته حماسا كبيرا في الدفاع عن مسار العدالة الانتقالية وذكر ان خلفية الانسحابات ليست لها علاقة بهيئة الحقيقة والكرامة ولا بالعدالة الانتقالية فمردها خلافات سياسية. وبينت ريم محجوب النائبة عن كتلة الولاء للوطن انها كثيرا ما دافعت عن مسار العدالة الانتقالية لكن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وكما سمتها «للة سهام بن سدرين» داست على النواب وعلى قرار مجلسهم. تجاوزات عماد الدايمي النائب عن الديمقراطية بيّن أن المجلس قام بجهد جبار لكي يتلافى ما حصل من تجاوزات كبرى يوم السادس والعشرين من مارس يوم الجلسة العامة المخصصة للتصويت على التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، وذكر انه بعد جهد جهيد تمت رمرمة الفضيحة وواصلت الهيئة عملها وفق القانون. وأضاف الدايمي أنه لا يوجد اي طرف يمكنه ان يوقف الهيئة قبل 31 ديسمبر، فهي اليوم تواصل عملها متحدية كل إرادات التزييف لأنه لا أحد باستطاعته أن يوقف مسار العدالة الانتقالية. وبيّن ان من يناقشون اعمال هيئة الحقيقة والكرامة يستبقون التوصيات التي سيتضمنها تقريرها النهائي، وذكر ان من لديه مشكلة تحجير سفر عليه ان يذهب الى القضاء معتبرا انه يجب على احمد فريعة ان يتحمل مسؤوليته امام القضاء.. الخلافات الحادة بين كتل الائتلاف الحاكم تجلت بوضوح كبير في ختام الجلسة العامة، ففي آخر لحظة تم ارجاء التصويت على مشروع القانون المتعلّق بالموافقة على اتفاقية القرض المبرمة في 7 أفريل 2017 بين حكومة الجمهورية التونسية والوكالة الفرنسية للتنمية لتمويل مشروع تهيئة الجذع المركزي للمترو ومحطة الترابط بساحة برشلونة الى موعد لاحق. ولم يكن بالإمكان تمرير هذا المشروع في ظل إنسحاب كتلتين. ◗ سعيدة بوهلال تعاطف عبر العديد من النواب أمس خلال الجلسة العامة عن تعاطفهم مع عائلة الشاب أيمن العثماني الذي راح ضحية رصاصة غادرة. وطالبوا الديوانة بملاحقة «الحيتان الكبيرة» لا إطلاق الرصاص على شباب الأحياء الفقيرة، ودعا بعضهم إلى عدم إطلاق التهم وانتظار ما سيقوله القضاء.