تنظر الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى التجربة التونسية بعين الاهتمام والتقدير، وتتابع ما يحدث في تونس عن قرب وهي التي كانت حريصة على إنجاح تجربة سياسة «التوافق» التي قادها «الشيخان» بين حركتي «نداء تونس» و»النهضة» وباركته ودعمته سياسيا.. لكن إعلان الباجي قائد السبسي في شهر سبتمبر الماضي القطيعة مع حركة «النهضة» وبالتالي إنهاء تجربة التوافق بين الحزبين التي استمرت منذ نهاية 2014 ربما أزعج الأمريكيين وأقلقهم. والمعروف عن الأمريكيين انهم عادة ما يستشرفون علاقاتهم الدولية، ويراهنون على البديل المحتمل. فحتى في صورة حدوث أزمات سياسية سيظل هناك دائما من يتعاملون معه، دافعهم في ذلك حماية مصالحهم الإستراتيجية والأمنية والعسكرية.. وهنا لسائل أن يسأل: كيف ينظر الأمريكيون إلى الوضع السياسي المتفجر في تونس، وهل يراهنون على توافق سياسي بديل يقوده يوسف الشاهد و»النهضة»؟ لا يشك اثنان في أن الاهتمام «الديبلوماسي» الخارجي المتزايد لما يسمى ب»التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس» أمر عادي ومطلوب خاصة إذا اقترن بدعم معلن وفعال وقوي لحماية التجربة وتطويرها وقد يترجم إلى تعاون اقتصادي وإبرام اتفاقيات ثنائية في الغرض.. لكن هذا الاهتمام قد يختلف من بلد لآخر ومن قوى وتكتلات دولية وإقليمية ومالية وفقا لاعتبارات اقتصادية وتاريخية وإستراتيجية.. من هنا يمكن قراءة الموقف الأمريكي من التجربة التونسية الذي كان داعما لها منذ البداية في عهد باراك أوباما واستمر حتى صعود دونالد ترامب الى سدة الرئاسة.. بل إن وجود «حلفاء» أو أصدقاء لتونس من مجلسي الشيوخ والنواب ومن الحزبين الديمقراطي والجمهوري أفشل مساعي ترامب السنة الماضية في خفض مستوى المساعدات الأمريكية السنوية الممنوحة لتونس، علما أن لجنة الاعتمادات في الكونغرس رفضت اقتراح الإدارة الأمريكية التخفيض في حجم المساعدات المقترحة الى تونس وطلبت المحافظة على نفس الدعم المخصص عام 2017 والمقدر ب165,4 مليون دولار أمريكي لينسحب على سنة 2018. مع الإشارة إلى أن برنامج دعم الولاياتالمتحدةلتونس يشمل أساسا تقديم ضمانة قروض تصل قيمتها إلى 5000 مليون دولار موجهة لدعم برنامج الإصلاحات الاقتصادية. ويعتبر السيناتور جون ماكين (توفي في أوت 2018) من أكثر أعضاء مجلس الشيوخ اطلاعًا على الملف التونسي، وهو الذي قاد التيار المناهض لمشروع ترامب لتخفيض المساعدات إلى تونس. وقد أثارت زياراته إلى تونس، الكثير من التساؤلات، وكان في كل مرة يظهر اهتماما وتعاطفا خاصا مع الثورة التونسية والتحولات السياسية التي شهدتها.. وكانت أولى زياراته المعلنة بعد سقوط النظام السابق، في فيفري 2011 وآخرها كانت سنة 2015، وفي كل زيارة له، كان ماكين يحرص على لقاء قيادات حركة النهضة. اهتمام سياسي وديبلوماسي وبالعودة إلى علاقة الأمريكيين بتونس بعد الثورة، يمكن الجزم بأن الولاياتالمتحدة كانت دائما تبحث عن موطئ قدم لها في تونس وبنت على مر التاريخ علاقات صداقة قوية مع الأنظمة السابقة (فترتا بورقيبة وبن علي) وشملت مجالات التعاون القطاعات الاقتصادية والتجارية والأمنية.. وحافظت على علاقات جيدة مع تونس وعلى مستوى عال من التنسيق مع الحكومات المتعاقبة بعد ثورة جانفي 2011 ومع ممثليها الرسميين من الرئاسات الثلاث، أو مع الأحزاب الكبيرة المؤلفة لتلك الحكومات، وازدادت تلك العلاقة وضوحا بعد انتخابات أكتوبر 2014 ولم تتأثر بحادثة غزو السفارة الأمريكيةبتونس في 2013. ما يشير إلى اهتمام الأمريكيين بتونس وبالتحول الديمقراطي الذي تعيشه ومراقبتهم لما يجري على الساحة السياسية على وجه الخصوص من صراعات وأزمات وتحالفات، الزيارات المتكررة للوفود النيابية الأمريكية من المجلسين الكونغرس والشيوخ، والزيارات المتكررة على مستوى الخارجية الأمريكية ومحادثاتهم الرسمية مع نظرائهم من تونس، تقابلها الزيارات التاريخية التي أداها لواشنطن كل من الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي في 2014، ثم زيارة ثانية لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد في جويلية 2017. وتخللت الزيارتين زيارات عديدة لوزراء خارجية ودفاع حكومات تونسية متعاقبة وزيارات غير رسمية في شكل دعوات لزعماء أحزاب وسياسيين خاصة من قيادات معروفة لحزبي حركة النهضة، وأيضا من حركة نداء تونس. المهم انه تم في كلتا الزيارتين (زيارة قائد السبسي وزيارة الشاهد) توقيع اتفاقيات مهمة بين البلدين ساهمت في تعزيز العلاقات بين البلدين ومنها التوقيع في 20 ماي 2016 مذكرة تفاهم تؤكد علاقات الصداقة والقيم المشتركة التي تجمع بين البلدين وتدعم الانتقال الديمقراطي بتونس، مهدت لوضع تونس ك»حليف أساسي غير عضو في حلف شمال الأطلسي». وتنص المذكرة في أحد بنودها على التزام الجانبين بضمان أمن البلدين، وتولّي الولاياتالمتحدة دعم القدرات الأمنية والدفاعية لتونس، ومزيد من تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب من خلال برامج تمويل اقتناء التجهيزات العسكرية وبرامج التكوين العسكري والأمني.. مهما يكن من أمر، وبالعودة إلى نسق الاهتمام الأمريكي بما يجري في تونس، يمكن قراءة هذا الاهتمام من خلال تتبع نسق زيارات الوفود الأمريكية إلى تونس في فترة ما قبل إنهاء التوافق الرسمي بين نداء تونس وحركة النهضة، على خلفية الخلاف بين قائد السبسي وراشد الغنوشي بخصوص ما يعرف بالبند 64 المتعلق بمصير حكومة الشاهد والذي برز جليا بعد فشل الحوار حول ما يسمى ب»وثيقة قرطاج 2»، وأيضا في فترة صعود الحزام السياسي الجديد الداعم ليوسف الشاهد في مواجهة خصومه من النداء وأحزاب أخرى وبعض المنظمات الوطنية، ونعني بذلك تأسيس الكتلة البرلمانية «الائتلاف الوطني» الداعمة لما يسمى بالاستقرار الحكومي أي لبقاء يوسف الشاهد في منصبه مع ضمان دعم سياسي قوي من حركة النهضة ومن كتلتها البرلمانية. زيارات متكررة اللافت للانتباه أن نسق زيارات الوفود الأمريكية إلى تونس، ارتفع خلال النصف الثاني من سنة 2014 مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ثم خلال كامل سنتي 2015 و2016 وبنسق أقل خلال سنة 2017. لكنه عاد للارتفاع خلال سنة 2018 خاصة مع تصاعد حدة الحراك السياسي وبداية الحديث عن أزمة سياسية انطلقت في شهر مارس 2018 مع دعوة قائد السيبسي إلى حوار سياسي بخصوص وثيقة قرطاج 2، وكان الهدف منها إيجاد أرضية إجماع من قبل الداعمين لوثيقة قرطاج 1 التي انبثقت عنها حكومة يوسف الشاهد الأولى أو ما يعرف ب»حكومة الوحدة الوطنية»، بخصوص مستقبل الحكومة القائمة ورئيسها.. فلا يكاد يمر شهر تقريبا إلا وتسجل زيارة وفد أمريكي من مجلسي الشيوخ والنواب إلى تونس. وكانت البلاغات الرسمية الصادرة عن اللقاءات التي تجرى مع الوفود الأمريكية تشير إلى إعجاب أمريكي بالتجربة التونسية وخاصة تجربة التوافق السياسي واستعداد الولاياتالمتحدة الدائم لدعم الديمقراطية الناشئة في تونس. ولعل الزيارة التي أداها وفد لجنة الشراكة بالكونغرس الأمريكي بقيادة النائب بيل فلورس Bill FLORES إلى تونس في 30 أوت 2018 تقيم دليلا على عمق القلق الذي ينتاب الديبلوماسية الأمريكية من الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد حين ترجم القلق بتساؤل الوفد -الذي كانت له لقاءات مع رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ورئيس البرلمان، وزعماء أحزاب (حركة النهضة)- عن مصير انتخابات 2019 ودعوتهم الملحة إلى تنظيمها في موعدها. وقبل ذلك، كان لرئيس الدولة الباجي قائد السبسي لقاء مماثل بتاريخ 1 جويلية 2018 مع وفد عن مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين.. ومن أحدث اللقاءات التونسيةالأمريكية على مستوى رسمي، اللقاء الذي جمع يوم 9 أكتوبر 2018، وفدا من الكونغرس الأمريكي عن اللجنة القضائية، يتقدمه النائب بوب قوودلات Bob Goodlatte بكل من رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، والذي «جدد التزام الولاياتالمتحدة بمساندة جهود تونس لتركيز المؤسسات الديمقراطية ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية.» وأشاد الوفد الأمريكي الذي يتقدمه النائب «روبرت ويليام قودلايت»، حسب بلاغ لرئاسة الجمهورية، بعلاقات الصداقة والتعاون التاريخية التي تجمع تونسوالولاياتالمتحدةالأمريكية، مؤكدا حرص بلاده على مواصلة دعم التجربة الديمقراطية لتونس وما تحقق للتونسيين من مكاسب في مجال احترام الحقوق وضمان الحريات. كما أدى وفد أمريكي في 18 سبتمبر 2018 زيارة إلى قبلي بحث فيها إمكانية تمويل مشاريع لتهيئة عدد من المنظومات المائية وفقا لما ورد ببلاغ رسمي أصدرته الحكومة آنذاك.. وأدّى وفد آخر من الكونغرس الأمريكي زيارة الى «هيئة الحقيقة والكرامة» يوم الاربعاء 31 أكتوبر 2018، وأبدى فيها اهتمامه بتجربة العدالة الانتقالية في تونس التي اعتبرها نموذجا لدول الجوار مثل سوريا وليبيا. وتساءل الوفد الأمريكي ان كانت المدة كافية لاستكمال الهيئة لأعمالها وإن كانت تحظى بالدعم الكافي من مؤسسات الدولة، وفقا لما جاء في بلاغ عن هيئة الحقيقة والكرامة. إذن، في المحصّلة، لم يعد الاهتمام الأمريكي بتونس خافيا على أحد، بل هو معلن بشكل رسمي، لكن يجب ان ننظر دائما إلى الأبعاد الخفية والظاهرة للسياسية الأمريكية الخارجية التي دائما ما تضع نصب أهدافها حماية المصالح الأمريكية بالخارج والبحث عن علاقات إستراتيجية بعيدة المدى مع عديد الدول لتحقيق ذلك. يذكر أن التنسيق الأمني بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوتونس بلغ مستوى رفيع خاصة في السنوات الأخيرة، تحت عنوان التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، ما يتجلى من خلال التدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين، وتطور الدعم العسكري الأمريكي لتونس من خلال تسليم معدات وأجهزة عسكرية (عربات مصفحة، طائرات هيلكوبتر حربية بلاك هوك، طائرات استطلاع، تجهيزات عسكرية مختلفة..)، أو تبادل معلومات وتوفير خبرات.