بعد المصادقة على ميزانية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات خلال الأسبوع الماضي، من المقرر أن يعقد مجلس نواب الشعب جلسة عامة انتخابية يوم الجمعة المقبل 21 ديسمبر مخصصة لانتخاب رئيس جديد للهيئة وانتخاب ثلاثة اعضاء جدد لمجلسها المركزي. فهل تتجه الأمور فعليا نحو الاستقرار داخل الهيئة حتى تنصرف للانكباب على اعداد المسار الانتخابي المقبل؟ أم أن تواصل التدخلات السياسية والتأثيرات الخارجية التي طالت دواليب الهيئة في محاولة لمصادرة قراراها قد تخفي المزيد من المفاجآت التي قد تعصف بالمسار الانتخابي وتزيد في شحن الاحتقان وتغذية الصراعات والخلافات بين أعضاء الهيئة؟ وكان مجلس النواب قد صادق يوم 6 ديسبمر الجاري على ميزانية هيئة الانتخابات للعام المقبل والمقدرة ب83.930 مليون دينار بموافقة 132 نائبا، بنقص يقدر بقرابة 50 مليون دينار وعدت الحكومة بضخها لفائدة الهيئة من الاعتمادات المخصصة لباب النفقات الطارئة. وإن كانت الموافقة النسبية على تخصيص اعتمادات مخصصة للانتخابات يمثل ضمانة مؤكدة بأن الانتخابات الرئاسية والتشريعية ستعقد في موعدها المقرر، وأن المسار الانتخابي قد انطلق فعليا (رغم أن عدم تلبية الحكومة لكل الميزانية المطلوبة لتنظيم الانتخابات وجعل الهيئة مرهونة للسلطة التنفيذية لتمويل احتياجاتها وبالتالي تهديد استقلاليتها تجاه جميع السلطات الفاعلة حزبية كانت أم سياسية أم لوبيات مالية)، إلا أن حماية المسار الانتخابي وتحصين الهيئة من الداخل ضد الاختراقات لتستعيد تماسكها واستقلالية قرارها، والسعي نحو محاولة إعادة ما ضاع منها من منسوب الثقة الذي مازال مهزوزا، تعتبر من أوكد شروط نجاح العملية الانتخابية في كافة مراحلها.. ويجعل من الهيئة - في صورة استقرارها من الداخل- جاهزة تماما لإنجاح الاستحقاق الانتخابي.. كان واضحا أن مقاطعة جل أعضاء مجلس الهيئة للجسلة العامة المخصصة للميزانية وترك رئيس الهيئة المستقيل محمد التليلي المنصري في موقف محرج يصارع لوحده سهام انتقادات النواب، قد وجهت أكثر من رسالة سلبية عمّا يدور داخل الهيئة من صراعات غير بريئة تتجاذبها المصالح والأهواء والطموحات الشخصية. فرغم أن أعضاء مجلس الهيئة حاولوا من خلال المقاطعة الرمزية الضغط على البرلمان وتحميله مسؤولية التأخر في انتخاب رئيس جديد للهيئة وثلاثة أعضاء جدد لتعويض الأعضاء المغادرين بالقرعة، إلا أن ما ترسخ في أذهان الرأي العام والناخبين وبعض النواب صورة مغايرة تماما عن الهيئة لا تنبئ بخير.. جدير بالذكر أن الانتقادات التي طالت هيئة الانتخابات وصلت إلى حد مطالبة بعض النواب (من كتلة "مشروع تونس" خاصة) أعضاء الهيئة جميعا بالاستقالة على اعتبار أن الصراعات القائمة صلب الهيئة ستحول دون تنظيم الانتخابات المقبلة بالمعايير المتعاهد عليها، مقابل ثناء بعض النواب (من كتلة حركة "النهضة" أساسا) على دور الهيئة على امتداد مسيرتها في المسار الانتقاليّ، وتأكيدهم على أن الخلافات داخلها لم تمسّ من مصداقية الانتخابات البلدية.. تراكمات.. صحيح أن البرلمان ومن ورائه الكتل البرلمانية والأحزاب السياسية التي تمثلها، يتحمل جزءا من مسؤولية صراع الأجنحة داخل الهيئة، الذي تكوّن بسبب إهمال الرقابة على الهيئة حتى تراكمت مشاكلها حد التعقيد. إذ لم يتم -مثلا- فتح تحقيقات جدية بشأن الاتهامات الخطيرة المتبادلة بين اعضاء الهيئة والرئيس المستقيل، في عدة مناسبات، كما لم يتم الأخذ بخطورة ما ورد من تجاوزات في التقارير المالية والسنوية للهيئة والتدقيق فيها، ولم يتم الأخذ بخطورة تصريحات بعض أعضاء الهيئة بوجود اختراقات خارجية للهيئة من قبل منظمات أجنبية، ولم يتم أيضا الإسراع بالحسم في انتخاب رئيس جديد متى كان ذلك مناسبا وممكنا، علما أنه وعلى عكس المرات السابقة، ترشح لخطة الرئيس عضو واحد وهو ما يسهل - نظريا- عملية الانتخاب.. لكن كل ذلك ما كان ليحصل لو نجح أعضاء الهيئة في استنباط حلول قانونية لا تتعارض مع القانون الأساسي للهيئة ولا مع الدستور، تمكنهم من تجاوز أزمة القيادة ولو إلى حين، لا أن ينتظروا رحمة الكتل البرلمانية حتى تتفق وتتوافق. حاول الرئيس المستقيل - لوحده- طمأنة النواب والرأي العام والناخبين في دفاعه عن جاهزية الهيئة ورد على بعض الانتقادات التي طالت أداء الهيئة وأعضاءها، وتفادى الانزلاق نحو التجريح في زملائه أو السقوط في متاهات الاتهامات المجانية، وهذا أمر مهم يحسب له، خصوصا حين أشار إلى أن عهد تزوير الانتخابات ولى وانتهى وأن الهيئة جاهزة تماما لانتخابات 2019. لكن هل هذا يعني أن الأمور تسير بشكل جيد داخل الهيئة، وأن هناك تكاملا بين أعضائها حتى لو اختلفوا وتقاطعت مصالحهم، وأن ذلك لن يؤثر في جل الحالات على مسار الانتخابات ولا على نزاهة العملية الانتخابية؟ توافق غير مضمون أمر آخر لا يقل خطورة، وقد يعيد بعثرة محاولات ترميم الهيئة التي فقدت توازنها، ألا وهو عدم وجود ضمانة بين الكتل حتى تتوافق على انتخاب نبيل بفون بصفته مرشحا وحيدا لرئاسة الهيئة، ونفس الأمر ينطبق على انتخاب ثلاثة اعضاء جدد لمجلس الهيئة، إذ يتطلب في جميع الحالات توفر شرط انتخاب ثلثي اعضاء مجلس النواب لنجاح العملية الانتخابية. فلا يمكن الحديث عن إمكانية حل أزمة التسيير داخل الهيئة الا بعد نجاح الجلسة الانتخابية. عموما لا يمكن حصر سلامة المسار الانتخابي فقط في انتخاب رئيس جديد للهيئة أو تجديد ثلث تركيبتها، بل في إدراك النواب والسياسيين لأهمية استقلالية الهيئة ورفع أيديهم عنها والكف عن التدخل في شؤونها. فالكثير ينتظر الهيئة حتى تتمكن من تحقيق الحد الأدنى من سلامة المسار الانتخابي وتستعيد ثقة الناخبين والأحزاب. ومن ذلك اعادة النظر في سجل الناخبين وتحيينه وإعداد خطة لتسجيل أكبر عدد ممكن من الناخبين.. فضلا عن إعداد روزنامة واضحة للمسار الانتخابي، والاستعداد جيدا خاصة من الناحية الاتصالية والترتيبية للتصدي للتجاوزات الانتخابية والخروقات القانونية التي بدأت بالفعل، وعدم تكرار أخطاء انتخابات 2014 التي شهدت تجاوزات خطيرة في حق الناخبين سواء من قبل مرشحي الرئاسية أو مرشحي التشريعية والتي مرت دون عقاب فعلي ملموس. ومنها على سبيل المثال، ثبوت توزيع قائمات تشريعية لأحزاب معروفة لأموال على الناخبين، او المرشح للرئاسية الذي نال تمويلا أجنبيا في حملته الانتخابية احيل على النيابية العمومية وظل مجهولا ودون عقاب إلى حد اليوم، او المرشح الذي زوّر تزكيات وهمية لناخبين مستغلا أرقام بطاقات تعريفهم وظل أيضا دون عقاب رغم تسجيل عشرات التشكيات والعرائض القانونية في حقه.. رفيق