يكاد يكون الإجماع حاصلا لدى المتابعين للشأن العام على أن الوضع الاجتماعي تقهقر على مدار ال8 سنوات التي أعقبت ثورة الحرية والكرامة بعدما اعتقد كثيرون أن واقع الحال سيتغيّر وأن التونسي الذي انتفض من أجل تحسين واقعه سيكون في "بحبوحة" من العيش لاسيّما على المستوى المعيشي، حيث بات أكثر ما يؤرق الناس اليوم هو تأمين "لقمة العش" في ظل الارتفاع الجنوني لكلفة العيش. وبالتّوازي مع تدهور المقدرة الشرائية منذ الثورة الى اليوم فان هناك جملة من المسائل الهامة التي طبعت مسار الانتقال الديمقراطي لعل أبرزها معضلة هجرة الكفاءات والأدمغة على مدار الثماني سنوات الماضية لاعتبارات وأسباب عديدة: فلئن تتباين وتختلف أسباب الهجرة من قطاع الى آخر إلا ان الإجماع حاصل على أن ظروف العمل والوضعية الاجتماعية التي وصلت اليها البلاد هي من بين الأسباب القاهرة التي دفعت نحو تنامي هجرة الكفاءات والأدمغة. كما ان ظروف العيش نفسها من غلاء وشبه انعدام فرص العمل بالنسبة للشباب كانت أيضا من بين الأسباب الرئيسية لتنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية أو ما يعرف "بالحرقة". من هذا المنطلق، وبالعودة إلى تراجع المقدرة الشرائية منذ 2011 الى اليوم فانه يمكن الجزم انه بعد مرور 8 سنوات من ثورة الحرية والكرامة ان المقدرة الشرائية للتونسي قد تلقت "الضربة القاضية" في ظل الانهيار الصاروخي لهذه المقدرة على مدار الثماني سنوات الماضية. وهو ما يكشفه الواقع اليومي المعيشي ولعل بلوغ "حارة" البيض 980 مليما خير دليل على فظاعة هذا الارتفاع الذي طال مواد أساسية استهلاكية على غرار اللحوم الحمراء مما جعل التونسي غير قادر بالمرة على مجاراة هذا النسق الجنوني في ارتفاع الأسعار، وهو ما تؤكده في هذا السياق دراسة لمرصد "ايلاف" لحماية المستهلك التي أثبتت أن نسبة 60% أو أكثر من الموظفين يستوفون أجورهم مع حلول اليوم الثامن من كل شهر وفقا لما تناقلته مصادر إعلامية. تآكل الطبقة الوسطى ففي الوقت الذي كان يتطلع فيه التونسي إلى أن تسهم ثورة الحرية والكرامة في تغيير وتحسين واقعه اليومي، ازداد الوضع سوءا في ظل ارتفاع كلفة المعيشة الذي ادى بالضرورة الى تراجع وتأكل الطبقة الوسطى. وهو ما تكشفه لغة الأرقام: فسنة 2016 كشف بحث علمي أنجزته جامعة تونس أن القدرة الشرائية للتونسيين تتآكل سنويا بنسبة 10%، وهو ما أدى إلى فقدان التونسيين أكثر من 40% من إمكانياتهم جراء ارتفاع الأسعار ونسب التضخم. ووفقا لما تناقلته مصادر إعلامية فقد أبرزت الدّراسة ذاتها أن الطبقة الوسطى هي الأكثر استهدافا بهذا الانخفاض الأمر الذي تسبّب في تراجع تصنيف هذه الطبقة ضمن تركيبة المجتمع التونسي من 80 إلى 67%، خلال السنوات الأربع الماضية (انطلاقا من سنة 2016) بما يعني أن 17.5% من الطبقة المتوسطة في تونس انحدروا فعليا إلى تعداد الفقراء منذ 2012 من هذا المنطلق ساهمت هذه الوضعية وعلى حد تأكيد المتابعين للشأن العام في ارتفاع معدلات الفقر رغم تأكيد الهياكل الرسمية ان نسبة الفقر قد تراجعت بعد ان أورد مدير ديوان وزير الشؤون الاجتماعية سامي بلغيث بتاريخ 7 ديسمبر 2018 تراجع نسبة الفقر في تونس الى 15 بالمائة بعد ان كانت سنة 2010 في حدود 20 بالمائة. كما أورد المدير العام للمعهد الوطني للإحصاء الهادي العبيدي بتاريخ الاثنين 29 جانفي 2018، أنّ خطّ الفقر في تونس حُدد ب1085 دينار ككلفة إنفاق في السنة وذلك باعتماد منهجية الفقر المادي التي تمّ على أساسها احتساب نسبة الفقر في البلاد سنة 2015. وفسّر العبيدي في تصريح لإذاعة شمس أف أم أنّ نسبة الفقر في تونس تُحتسب كل 5 سنوات، مبيّنا أنّ عدد الفقراء بلغ مليون و694 مضيفا بان من ينفق سنويا اقل من 1085 دينارا في المدن الكبرى يعتبر فقيرا و1050 دينار في الوسط البلدي و952 دينارا بالوسط غير البلدي. لكن دون الخوض في مدى صحة هذه الأرقام الرسمية فان واقع الحال وعلى حد تأكيد كثيرين يفندها بالنظر إلى ارتفاع كلفة المعيشة في تونس وارتهان جزء كبير من التونسيين إلى القروض البنكية فضلا عن الأرقام السالفة الذكر التي تؤكد تآكل الطبقة الوسطى. هجرة الكفاءات والأدمغة من جهة وأخرى وبالتّوازي مع تراجع المقدرة الشرائية فان أبرز ما يميز الوضع الاجتماعي على مدار ثماني سنوات الماضية هو معضلة هجرة الكفاءات او الأدمغة لا سيما في صفوف الأطباء والمهندسين. والأرقام في هذا الصدد مفزعة بما ان آخر الإحصائيات تشير الى هجرة 10 آلاف مهندس تونسي إلى خارج البلاد بسبب تردي وضعيتهم المادية، في ظل حصولهم على أجر في الوظيفة العمومية لا يتجاوز 1300 دينار، وفق ما أعلنته عمادة المهندسين، والتي طالبت آنذاك نواب البرلمان بسن قانون أساسي منظم للقطاع. ويقابل هجرة الكفاءات والأدمغة، هجرة غير نظامية أو ما يعرف ب"الحرقة" التي ما فتئت تتطور من سنة إلى أخرى بعد الثورة: فقد بلغ عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين 4 آلاف مهاجر منذ بداية سنة 2018 مقابل 60 ألف مهاجر تونسي نظامي وفقا لما أعلنت عنه بتاريخ سبتمبر الماضي رئيسة بعثة المنظمة الدولية للهجرة بتونس. من هذا المنطلق وجد التونسي في قوارب الموت ضالته أملا منه في واقع أفضل، هذه القوارب التي انضافت إليها خصوصية جديدة بعد الثورة تتمثل في انضمام الجنس اللطيف والرضع إليها واللذان أضحيا يسجلان حضورهما وبقوة داخلها خلال السنوات الأخيرة. تدهور الوضع التربوي من جهة أخرى لا يٌمكن ونحن نُقيّم حصيلة 8 سنوات من الوضع الاجتماعي بعد ثورة الحرية والكرامة التعرّض إلى الواقع التربوي الذي شهد وللأسف عقب 2011 تدهورا ملحوظا على حد تأكيد المهتمين بالشأن التربوي بعد ان أضحت المؤسسات التربوية خلال السنتين الأخيرتين رهينة معارك كسر العظام بين الطرف النقابي وسلطة الإشراف التي انجرّت عنها قرارات تصعيدية على غرار حرمان التلميذ من حقه في الاختبار وفي انجاز الامتحانات. فالوضع التربوي وللأسف ما فتئ تدهور لا سيما خلال السنتين الأخيرتين بما بات يهدد جديا مستقبل وصورة المدرسة العمومية، التي فقدت بريقها كمنارة ساهمت على مدار عقود في صقل ونحت أجيال المستقبل. هذه الصورة التي اهتزت على وقع خلافات (بين سلطة الإشراف والجامعة العامة للتعليم الثانوي) زاد من حدتها تعنت الطرفين وانسداد لقنوات وأفق الحوار على امتداد أسابيع عدة، لنصل لاحقا وفي الدقيقة 90 على حد تعبير كثيرين، إلى التوافق المنشود الذي ساهم في إنقاذ السنة الدراسية من شبح السنة البيضاء. ودون الخوض في أحقية الأطراف المتنازعة لا سيما أن الحق النقابي هو من الحقوق الجوهرية ومن المكاسب الأساسية التي جاءت بها ثورة 2011، الا ان المماطلة في تسوية الخلاف وتطويقه في الرمق الأخير من عمر السنة الدراسية (بالنظر الى ما حصل السنة الماضية) له تداعيات عدة لعل أبرزها ان التلميذ لم ينهل من منابع العلم والمعرفة بالشكل المطلوب وبالنجاعة الكافية بما يجعله لاحقا، وعلى حد تأكيد المختصين، عرضة للانقطاع المدرسي...