تحتاج الكثير من العلوم الحديثة إلى إنشاء المختبرات للقيام بأنشطتها العلمية. أما علم الإجتماع أو علم العمران البشري الخلدوني فهو لا يتطلب المختبرات لكي يقوم بطرح الفرضيات وصياغة المفاهيم وتأسيس النظريات العلمية. إذ المجتمع البشري هو المختبر الكبير لعالم الإجتماع المعاصر كما كان الأمر لابن خلدون الذي استطاع أن يؤلف مقدمته الشهيرة اعتمادا في المقام الأول على معايشته للمجتمعات العربية الإسلامية وملاحظاته للعوامل الفاعلة في حركيتها. ومن جهتي، فقد كثفت اهتماماتي في دراسة المجتمع التونسي خاصة بعد عودتي إليه من أمريكا الشمالية والبلاد العربية والآسوية. فتوصلت إلى اكتشاف ظواهرجديدة لايكاد يدرسها علم الإجتماع التونسي بعد الاستقلال. فالشخصية التونسية المستنفرة والتخلف الآخر والفرونكوأراب الأنثوية وضعف التعريب النفسي والإقٌتصار على تربية ماشية الذكور في الشمال الشرقي التونسي كلها ظواهر نجحت في اكتشافها من صميم تربة النسيج الإجتماعي للمجتمع التونسي، كما يشهد على ذلك كتابي ( الوجه الآخر للمجتمع التونسي الحديث 2006). المجتمع التونسي ومعالم التخلف الآخر فالمجتمع التونسي هو مختبري الفسيح الذي أجد فيه دائما الظواهر المتنوعة التي تحتاج إلى عدسة العلوم الإجتماعية للتعرف عليها وفهمها وتفسيرها. فعلى سبيل المثال، تفيد ملاحظاتي الميدانية ان المجتمع التونسي يعرف الكثير من ظواهر ما اسميه التخلف الآخر (انظر كتابي: التخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث 2002). إنها ظواهرلها علاقة باللغة العربية /اللغة الوطنية للمجتمع التونسي. ويعني مفهوم التخلف الآخرعندي أمرين رئيسيين. أولا: فمن ناحية، يمزج التونسيون شفويا حديثهم بالعامية العربية التونسية بعدد كبير من الكلمات والجمل الفرنسية. ومن ناحية ثانية، يقصي التونسيون اليوم كتابيا بالكامل استعمال العربية الفصحى من الاستعمال في العديد من الممارسات اليومية مثل كتابة الشيكات من طرف الأغلبية الساحقة من المواطنين التونسيين أو نشر دليل الهاتف من طرف مؤسسة اتصالات تونس. ثانيا: لايكاد يجد عالم الإجتماع علاقة حميمية بين التونسيين واللغة العربية لغتهم الوطنية. وبالتالي فهم لايكادون يدافعون بطريقة عفوية عليها ولاهم من الغيورين عنها في غالب الأحيان. وبعبارة أخرى، فهم يتصفون بضعف كبير في ما أطلقت عليه مصطلح التعريب النفسي. ان حالة الضعف لهذا الأخيرعند جل المواطنين التونسيين المتعلمين والمثقفين تؤدي إلى ظهور سلسلة من أعرض مركبات النقص لديهم. اللغة الأجنبية وبث مركب النقص في هويتنا ينتشر اعتقاد جماعي ساذج في المجتمع التونسي بان تعلم اللغات الأجنبية أمر إيجابي بالكامل. يلاحظ الباحث الإجتماعي أن هذا الإعتقاد الخاطئ يمثل اليوم مسلمة من المسلمات عند الخاصة والعامة من الشعب التونسي. فدعني أقدم عينة تونسية يتجلى فيها بوضوح أن تعلم اللغة الأجنبية ليس بالضرورة بالأمر الإيجابي في كل الظروف وبالتالي قد يكون سلبيا على عدة مستويات تجهلها اليوم حسب ملاحظاتي الأغلبية الساحقة من التونسيين. قابلت في الأسبوع الثاني من شهر جوان 2008 زميلا جامعيا تونسيا في إحدى الندوات في قلب العاصمة التونسية. لم أكن أعرفه من قبل لكنه يبدو انه يعرف عني الشيء القليل. فبدأنا نتحدث حول مواضيع الندوة. فكان يمزج كلامه كثيرا بالفرنسية. وبعد مهلة من الإستماع إليه على هذا النحو من الكلام الممجوج لم أكد أصبر على عدم الإحتجاج عليه، فخاطبته قائلا "إني سوف لن أستمر في الحديث معك إن أنت واصلت هذا النمط من الكلام، فلنا لهجتنا العربية التونسية النقية أو العربية الفصحى لغتنا الوطنية التي ينبغي استعمالها بيننا" فأردف قائلا "فهل تقبل المزج باللغة الإنكليزية" فأجبته أبدا يجب الإلتزام باستعمال اللغة العربية في شكليها العامي والفصيح " فرد علي قائلا"même pour les intellectuels اي حتى بين المثقفين ؟ إن تأويل عالم الإجتماع لباطن تساؤل هذا الزميل يشير إلى أن معظم المتعلمين و المثقفين التونسيين قد تعلموا خطأ وجهلا في المدرسة والجامعة والمجتمع وكان اللغة العربية / اللغة الوطنية غير صالحة لتكون أداة تعبير على الفكر والثقافة والعلم بينهم. فأصبح هذا الموقف ظا هرة جماعية تلاحظ بسهولة لدى عدد كبير منهم قبل وبعد الاستقلال. والزميل المشار إليه مثال حي على علاقة الإغتراب المستمرة مع اللغة العربية التي يجدها المرء عند عدد كبير من المتعلمين والمثقفين التونسيين. وتعني حالة الإغتراب هنا فقدان شعور الغيرة على اللغة العربية وندرة من يدافع عنها باقتناع وحماس بين العامة والخاصة. فيؤدي بالتالي مثل هذا الموقف إلى مشاعر وسلوكات تحقيرية للغة العربية ومن ثم بث الشعور بمركب النقص إزاء الذات والهوية باعتبار أن اللغة هي بطاقة الهوية الوطنية عند الشعوب المتقدمة مثل ألمانياوفرنسا وإيطاليا واسبانيا. فهل يمثل سلوك تنكر هذا الزميل لاستعمال اللغة الوطنية انفتاحا على الآخرأم استلابا مشينا يمس أهم مكونات هوية الأفراد والشعوب؟ ومن ثم، فهناك شروط ضرورية لتعلم لغة الآخر كوسيلة للإنفتاح عليه لا كوسيلة للإنسلاخ والإنبتات من الذات والهوية. يلاحظ الباحث الإجتماعي أن الخاصة والعامة في المجتمع التونسي لاتكاد تتحدث عن الشروط اللازم توفرها للإقبال على تعلم اللغات الأجنبية. إذ تميل الخاصة والعامة إلى الإعتقاد بان تعلم اللغات الأجنبية كله خير وبالتالي لاتطرح عندهم قضية الشروط الضرورية للمحافظة على ما اسميه المناعة اللغوية والثقافية للمواطنين التونسيين ومجتمعهم كما تفعل المجتمعات المتقدمة إزاء تعلم اللغات الأجنبية. تتمثل هذه الشروط عندهم في محافظة لغتهم/لغاتهم الوطنية على المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات الخاصة والعامة في مجتمعاتهم. وبذ لك فلا حظ لوجود أعراض مركبات النقص عندهم بسبب تعلمهم للغات الأجنبية كما هو الحال بالمجتمع التونسي. ويجب القول بهذا الصدد أنه لا يجوز الترحيب بتعلم اللغات الأجنبية إذا أصبحت هذه اللغات مصدرا لجعل اللغة/ اللغات الوطنية في المكانة الثانية أو الثالثة بين أهلها وفي مجتمعاتها، من جهة، وسببا لبث مركبات النقص في الأفراد ومجتمعاتهم، من جهة أخرى. أسباب جذور هذا الموقف المشين من اللغة العربية يرجع سبب انتشار هذا التصور الخاطئ للإنفتاح على الآخر الغربي عبر معرفة واستعمال لغته بين التونسيين إلى استمرار قوي لمعالم الاستعمار اللغوي الثقافي لدى أغلبية النخب السياسية والثقافية ،من جهة، ومعظم أفراد ومجموعات الطبقتين العليا والمتوسطة،من جهة ثانية. فكم روى بعض السياسيين بعد الفترة البورقيبية ميل الزعيم بورقيبة وكثيرين ممن عملوا معه إلى استعمال اللغة الفرنسية بدل اللغة العربية / اللغة الوطنية. أفلا يمثل ذلك السلوك اللغوي غيرالوطني معلم مركب نقص على مستوى القيادة السياسية نفسها؟ ومن ثم لايمكن فهم وتفسير تعثر مسيرة التعريب في تونس المستقلة بدون الأخذ بعين الإعتبار دور القيادة السياسية التونسية الأولى في ذلك بعد الاستقلال. كما تعود جذور هذا الوضع، كما بينا في مقالات سابقة، إلى سوء/قصور فهم لظاهرة الاستعمار لدى تلك الأطراف التونسية الفا علة بعد الاستقلال. فالنخب السياسية والثقافية والطبقات الاجتماعية العليا والمتوسطة لاتكاد تعترف وتقر بوجوب التحررمن الاستعمار اللغوي الثقافي مثلما طالبت بوجوب الحصول على الاستقلال على المستوى السياسي والعسكري والفلاحي. فتهميش أو الإعراض على المناداة بقوة بالتحرر اللغوي الثقافي من الاستعمارالفرنسي يشيرإلى تصورخاطئ للإستعمارالفرنسي كما عرفته البلاد التونسية. فهذا الاستعمار شمل أربعة ميادين ألا وهي الإحتلال السياسي والعسكري والفلاحي واللغوي الثقافي. وخلافا للإستعمار البريطاني، فالاستعمار الفرنسي يعطي أهمية أكبر إلى الجوانب اللغوية والثقافية في عملية استعماره للشعوب. يتجلى ذلك بكل وضوح في استعمار فرنسا للجزائر. وعلى هذا الأساس يجوز النظر إلى المجتمع التونسي المستقل على أنه قبل ويقبل أهم معلم من المعالم الأربعة للاستعمار الفرنسي والمتمثل في ضعف المناداة بحماس وممارسة لصالح التحرر اللغوي الثقافي. مأزق الموقف المزدوج إزاء اللغة العربية وبسبب هذا التوجه المهادن لحضورالاستعمار اللغوي الثقافي يجد المحلل الإجتماعي تفسيرا لتجليات الموقف المزدوج التي يعيشها المجتمع التونسي المستقل مع لغته الوطنية/اللغة العربية بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. فمن ناحية، يعلن دستورتونس المستقلة في أولى فقراته بان تونس دولة مستقلة لغتها العربية ودينها الإسلام. ومن ناحية ثانية، نجد ان اللغة العربية لاتحتل اليوم المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات معظم التونسيين. ونتيجة لهذ ا التناقض بين المكانة الأولى التي ينادي به دستور البلاد للغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية الوحيدة لتونس المستقلة وبين المكانة غيرالطبيعية المشينة والمتمثلة، كما أشرت من قبل، في كون ان اللغة العربية ليس لها اليوم تلقائيا المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات معظم التونسيين. يطلق علم النفس الإجتماعي على هاته الحالة مصطلح التنافرالإدراكي مما يؤدي إلى اضطراب في نفسيات الأفراد إزاء لغتهم الوطنية. أي عدم وجود تناسق بين المعتقدات والممارسات أما المخرج من حالة عدم التناسق والتنافر في علاقة التونسيين باللغة العربية فهناك بديلان: (1) تغيير موقف أغلبية التونسيين لكي تصبح للغة العربية المكانة الأولى في وعيهم ولاوعيهم وفي قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم (2) إلغاء ذكر اللغة العربية كلغة وطنية من الدستور التونسي بحيث يصبح هناك انسجام وتناسق مع عدم تمتع اللغة العربية بالمكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات التونسيين. تدل معظم المؤشرات ان المجتمع التونسي لايقبل بالبديل الثاني ويفضل البديل الأول رغم الصعوبات التي يشهد عليها أكثر من خمسة عقود في عهد الاستقلال. وبعبارة أخرى، فخيار المجتمع التونسي هو المحافظة على اللغة العربية كلغة وطنية وحيدة يقع تطبيع العلاقة معها بالكامل من طرف كل التونسيين بحيث تصبح لها المكانة الأولى والمتميزة في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. ويتفق هذا مع القرار الرئاسي لعام 19992000 المنادي بالمصالحة الكاملة مع اللغة العربية في الإدارات التونسية الحكومية. تطبيع التونسيين لعلاقتهم مع اللغة العربية تعني كلمة تطبيع هنا أن تصبح اللغة العربية لغة الاستعمال الشفوي والكتابي في المجتمع التونسي. ومن ناحية ثانية، تصبح للغة العربية المكانة الأولى في قلوب وعقول التونسيين. وليس من الصعب تحقيق ذلك في النصف الأول أو الثاني من هذا القرن إذا تبنت السياسات اللغوية التالية: 1 القيام بحملات شعبية تحسس المواطنين بلغتهم الوطنية/اللغة العربية بحيث تفوز هذه الأخيرة بكسب رهان المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. بذلك يتحول مستوى التعريب النفسي الضعيف لدى أغلبية التونسيين إلى مستوى عال وقوي. علما ان سياسات التعريب في فترة الاستقلال لايعرف عنها أنها أعطت أهمية للتعريب النفسي وشن الحملات الوطنية لصالح تطبيع العلاقة بين التونسيين واللغة العربية. يفسرذلك الوضع تعثر سياسات التعريب بالمجتمع التونسي المستقل. 2 تشير تجارب الأمم المتقدمة إلى أهمية سن القوانين في حماية لغاتها وتطور مستوياتها. فمقاطعة كيباك بكندا مثال على ذلك. إذ استطاع أهل كيباك سن قوانين تحمي لغتهم الفرنسية في قارة أمريكا الشمالية الناطقة باللغة الإنكليزية بحيث حافظت وتحافظ شفويا وكتابيا لغتهم الوطنية على المكانة الأولى في قلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. وهم بالتالي لايشكون من أعراض مركبات النقص عند استعمالهم للغتهم الفرنسية. ومعروف في فترة الاستقلال الأولى أن القوانين الملزمة باستعمال اللغة العربية مع التونسيين كانت قليلة أو غير موجودة أصلا. ومن ثم، فإن ندرة القوانين اللغوية أو غيابها الكامل لصالح حماية اللغة العربية واحترامها والإعتزاز بها بين التونسيين كلغة وطنية يساعد على تفسير العلاقة غير الطبيعية بين المجتمع التونسي ولغته الوطنية. مما لا شك فيه أن فقدان اللغة العربية لاحتلال المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات معظم التونسيين بعد أكثر من نصف قرن من نيلهم الاستقلال أمر ينقص كثيرا من معنى الاستقلال والتحرر من استمرار هيمنة المستعمر القديم والحديث كما يهدد آفاق مستقبل المجتمع التونسي. إذ "من لالغة له، يصنع الآخرون مستقبله". (*) عالم اجتماع www.romuz.com