كثيرة هي الاسباب والدوافع التي من شأنها أن تدعو للتوقف عند محتويات تقرير البنك الدولي حول احد اكثر الموارد الطبيعية ضرورة في حياة الافراد والشعوب وفي تواتر الطبيعة واستمرار الحياة والتي بدونه لا مجال للانسان أو النبات أو الحيوان أن يعيش. واذا كانت أزمة الوقود قد فتحت المجال أمام الباحثين والخبراء عن بحث البدائل الممكنة للذهب الاسود، واذا كانت أزمة الغذاء بدورها قد دفعت إلى البحث عن سبل تطوير وتنمية وتحديث الثروة الزارعية. فإن أزمة المياه اذا استمرت في تفاقمها لن تجد لها بدائل لأن وبكل بساطة الماء ثروة طبيعية لا تعوض ولا مجال باي حال من الاحوال للاستغناء عنها أو استبدالها كما هو الحال مع النفط أو بعض انواع الحبوب... مرة اخرى لم تكن تحذيرات تقرير البنك الدولي بشأن أزمة مياه خانقة تواجهها منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا مبنية على فراغ أو هي من دون مبررات ولاشك أن في لغة الأرقام التي قدمها التقرير الذي أشرف عليه فريق من الخبراء والباحثين في هذا المجال من شانه ان يعكس احتمالات تداعيات هكذا أزمة على الشعوب المعنية اذا استمر غياب الدراسات المطلوبة والسياسات الكفيلة والاستثمارات الكافية للحد من نقص المياه . وبعيدا عن المبالغة فقد اكد التقرير أن حصة الفرد من المياه في دول منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ستتراجع إلى النصف بحلول سنة 2050 أي في غضون اربعة عقود بما يعني أن الاجيال الراهنة والاجيال المستقبلية ستعيش أزمة قد لا يكون من الصعب تحديد انعكاساتها في الوقت الراهن لا سيما امام استمرار التغيرات المناخية والنمو السكاني، اما التحدي الاكبر فهو مرتبط بقطاع الزراعة الذي يستهلك اكثر من 85 بالمائة من المياه في المنطقة. صحيح أن التقرير كان واضحا عندما اشار إلى أن حدود الأزمة تتفاوت من بلد إلى اخر ولئن نوه التقرير بدول مثل الاردن وتونس التي وصفها بالرائدة في مجال ادارة المياه وتطوير مصادره، فإنه في المقابل اشار إلى تراجع اجمالي الناتج الوطني في المغرب ومصر والجزائر بنسبة واحد في المائة مقابل تراجع بلغ اكثر من ثلاثة في المائة في ايران . ولعل في هذه الامثلة وغيرها التي استعرضها التقرير ما يؤكد أن أزمة المياه ليست ببعيدة وان الفشل في استحداث الحلول والبدائل والتخطيط باحكام للمستقبل سيعجل باثارها .و قد كان التقرير صريحا في دعوته الدول المعنية إلى اتباع سلسلة من الحلول لعل اهمها يرتبط ببحث سبل معالجة مياه الصرف واقامة شبكات مياه اكثر تطورا وحداثة إلى جانب الحد من كمية المياه المخصصة للري والتحول إلى الزراعات الاقل استهلاكا للمياه والتخطيط لبعث مشاريع جديدة مثل محطات تحلية مياه البحر ومقاومة اسباب تبخر المياه ... ولا شك ايضا أن في كل هذه الاقتراحات وغيرها ما يمكن أن يساعد على مواجهة أزمة المياه المطلة على شعوب منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا وهي حلول منطقية وتنطوي على الكثير من الحكمة الا أن الاهم من كل الاقتراحات والدراسات والبدائل المطروحة يبقى مرتبطا بدرجة الوعي لدى الراي العام ومدى استعداد الشعوب نفسها للتعامل مع أزمة المياه بواقعية وبعقلية مغايرة عن تلك التي تعودت عليها وتوارثتها جيلا بعد جيل. وهي بالتاكيد عقلية يجب أن تكون بعيدة عن التواكل والاستسلام للقدر تقاوم الفساد وتتصدى له بكل الطرق والاساليب وتحترم الطبيعة إلى درجة القداسة وتحرص على حماية مواردها وحسن استغلالها بعيدا عن ثقافة "رزق البيليك "السائدة بين شعوب العالم الثالث وفي منأى عن كل أسباب التبذير والاسراف والاهمال الأمر الذي يقتضي بدوره أن ترتقي حملات التوعية الموجهة للرأي العام في اهدافها وابعادها من مجرد الدعاية السياسية الجوفاء والبحث عن الربح الوفير إلى الربح الاكبر المرتبط بتحسيس الافراد والشعوب بحجم المسؤولية الماثلة امامهم وبأهمية التخطيط المحكم للمستقبل بما يمكن أن يساعد على تجاوز الازمات بأخف الأضرار . فالشعوب تعيش حاضرها وتتعلم الدروس من ماضيها وتخطط لمستقبلها...