الماء على الرأس والقبعات لمقاومة «الشهيلي» لكن هل يكفي نصف خبزة و«باكو» حليب للصّمود؟! قريبا ستنتصب في بلادنا شركات لا تعترف بالحصة الواحدة فحذار إذن.. مجرّد الصدفة أرادت ان يكون هذا التحقيق في ذلك اليوم الذي اشتعلت فيه الدنيا جرّاء حرارة الشمس التي اقتربت من 50 درجة.. مجموعة من عمّال الحضائر «تسلّحوا» بقبّعات أو «مظلات» لدرء نار الشمس الحارقة.. بين الحين والحين ينزع أحدهم قبّعته أو مظلته ليصب على رأسه قارورة ماء ثم يواصل عمله متحدّيا «الشهيلي» وغبار الحضيرة الذي تواطأ معه لقطع الأنفاس عن العمّال.. مع الساعة الواحدة يجري هؤلاء جماعات لتناول ما كتب الله لهم رغم ان اغلبهم لا يأكل غير نصف خبزة و«باكو» حليب أو لبن.. بعضهم يحتمي بظل شجرة وبعضهم بظل العمارة التي يعملون فيها.. لكن بعد ساعة فقط يصفّر «الشاف» فيعود الجميع الى مواقع العمل وهم مقتنعون بأن الخبزة أرادت لهم ذلك.. مشهد آخر لا يمكن ان يمرّ في الخفاء وهو مشهد عمّال احدى الشركات التي تقوم بأشغال مترو المروج.. ففي «طمبك» «الشهيلي» كان هؤلاء يضعون السكة الحديدية التي سخنت فانبعث منها «وهج» حارق أضيف الى لفح الشمس وقساوة «الشهيلي» فإذا بهؤلاء العمّال يعملون في درجة حرارة تناهز الغليان!! أما في الجانب الآخر من القصة فجنّة وأطرافها نعيم (وليس نارا كما تقول الأغنية الشعبية).. مكاتب مكيّفة وهواء بارد وماء بارد وأشغال لا تتطلب عضلات مفتولة أو عرقا يتصبّب من الجبين والجسم والقدمين. موظفون يعملون ست ساعات في اليوم مبدئيا.. وبعضهم لا يصل حجم عمله الى ساعتين «في قالب بعضو» ومع ذلك ترى هؤلاء يتذمرون ويشتكون.. فماذا رأوا من الشقاء ما رآه هؤلاء العمال.. وماذا يقول آخرون يعملون صيفا شتاء بنظام الحصتين.. أردنا انجاز هذا التحقيق بعد ان تعالت في الفترة الأخيرة أصوات منادية بحذف نظام العمل بالحصة الواحدة رغم ان الإتجاه العام كان منذ عدّة سنوات درس فوائد الحصة الواحدة وسلبياتها بنيّة تعميم هذا النمط من العمل على مدار العام. ويقول أصحاب الرأي المنادي بحذف الحصة الواحدة إن الإنتاج يتقلّص كثيرا خلال شهري جويلية وأوت وحتى شهر رمضان (وأنا أقول وخاصة شهر رمضان) لذلك هم لا يرون فائدة في مواصلة العمل بهذا النظام والأفضل ان يظل العمل بنظام الحصتين على الدوام. ولاشك ان لكلّ رأي ما يبرّره وما يسنده.. وفي هذا الإطار رصدنا ظروف العمل لثلاثة أنماط في المجتمع: عمّال الحضائر والموظف العمومي وصاحب العمل.. ثم رصدنا كذلك رأي شخص يعمل في «تونيزيانا» وهي احدى الشركات التي تعمل بنظام الحصّتين حتى في شهري جويلية وأوت وتشغل 1500 عامل وموظف.. لا يهمّ أن تحرقنا الشمس العمل في حضائر البناء شاق بكل ما تحمل الكلمة من معنى خاصة أثناء فصل الصيف وحرارة شمسه الحارقة. وقبل إنجاز هذا التحقيق كنت أتصّور أنني سأجد عمّال حضائر غاضبين مطالبين «بحقهم في العمل بنظام الحصة الواحدة في جويلية وأوت» على غرار موظفي القطاع العمومي والعديد من المؤسسات الخاصة. لكني وجدت الأية معكوسة إذ ان هؤلاء العمّال يرفضون «خرافة» الحصّة الواحدة ولهم أسبابهم ودوافعهم المنطقية التي لخّصها كمال المسعودي (رئيس حضيرة) عندما قال: «كلّنا نتمنى العمل كامل اليوم.. وحتى أكثر من 8 ساعات العادية فقط لأننا كلّما عملنا أكثر نربح أكثر فنحن نعمل بالسّاعة وفي نظام الحصة الواحدة تنقص ساعات العمل فنخسر جزءا كبيرا من مرتباتنا وتختلّ تبعا لذلك ميزانيات عائلاتنا.. ولهذه الأسباب نتحمّل حرارة الشمس الحارقة ونتحمّل كل شيء من أجل أن نحافظ على دخلنا العادي.. أما عن الظروف المناخية كالحرارة التي ترتفع الى درجات لا تطاق في أغلب أيام الصيف فإننا نتحايل عليها فترانا نقوم بأعمال داخل العمارة عندما ينتصف النهار فنتفادى الشمس بضع ساعات». البلدية والمواطن والعمّال؟ معزّ كرّاي مقاول شاب وصاحب شركة أشغال خاصة تعتني بكل ما هو تجديد أو ترميم على غرار الحضيرة الكبرى المفتوحة الآن بنزل «الماجستيك» بالعاصمة حيث تقوم شركة بتجديد النزل من الداخل والخارج بطرق عصرية وتحافظ في الآن ذاته على طابعه المعماري العتيق. هذا الشاب أثار في إطار هذا التحقيق مشكلة يعيشها مع بلدية تونس ووجد نفسه بسببها بين المطرقة والسندان إذ قال: «ينطلق العمل هنا في هذه الحضيرة على الساعة السابعة والنصف صباحا. وكان من المفروض ان نعمل على الأقل الى حدود الثانية والنصف ظهرا على غرار المؤسسات العمومية. لكن البلدية فرضت علينا ان نوقف العمل على الساعة الواحدة بعد منتصف النهار. ولئن كنت أتفهم دافع البلدية وهو الحفاظ على راحة المواطنين الأجوار وحقهم في القيلولة فإن هذا القرار البلدي جعلني بين مطرقة البلدية التي يجب احترام قراراتها ومواصلة الحوار معها وبين سندان العمّال ومصلحة العمل. فخمس ساعات في اليوم لا تخدم لا مصلحتنا كشركة ولا مصلحة العمّال الذين سوف تتأثر مرتباتهم كثيرا خاصة انه بعد شهري جويلية وأوت سيأتي شهر رمضان بكل ما يتطلبه من نفقات وأيضا العمل بنظام الحصة الواحدة. وحتى لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي فإننا طبقنا قرار البلدية رغم انه من حقنا العمل حتى الثانية والنصف دون ازعاج الأجوار وفي نفس الوقت نعمل ساعات اخرى نخصصها للأشغال التي لا تحدث ضجيجا (تنظيف او غربلة الرمل او إنزال السلع او توزيعها على الطوابق).. وأعتقد أن رأيي هذا ينطبق على جميع أصحاب العمل داخل العاصمة وفي المدن الكبرى. فنحن لنا عمّال يأتون من داخل الجمهورية ولا يرضيهم أن يعملوا خمس ساعات بل يطالبون بالعمل 10 ساعات أو أكثر كي يربحوا أكثر..» الراحة والمكيف والمردود الطرف الثالث في هذه الرحلة موظف عمومي سام.. مكتبه وثير ومكيّف ويعمل ست ساعات في اليوم ويتمنى ان تدوم هذه «النعمة» على مدار العام. هذا الموظف حكى عن ظروف عمله فقال: «ظروف العمل هنا طيبة جدّا فلا أكاد أشعر بحرارة الطقس إلا عندما أغادر مكتّبي.... أنا أعرف ماذا تقصد بالمردود خاصة عندما تقارن بين هذا النعيم وجحيم العمل في حضائر البناء مثلا.. وأعرف أن الكثير من الموظفين «يكركروا» ولا يقدّمون المردود المطلوب منهم حتى لو عملوا ساعة واحدة في اليوم فإنهم لابدّ ان «يشرمطوها» لكن بالنسبة لي فإن الأمر مختلف تماما. فأنا مقتنع بما أعمل ومقتنع أكثر بأني أقبض مرتبا لقاء العمل الذي أقوم به وليس لقاء النوم تحت المكيّف. كما عندي قناعة أيضا بأني أقدّم مردودا متواصلا خلال ستّ ساعات وهو لا يختلف في شيء عن مردودي خلال العمل بنظام الحصتين». العولمة والحصة الواحدة؟ في وقت قريب ستنتصب في بلادنا شركات أجنبية لا يعترف أصحابها بمنطق الحصة الواحدة لانهم يفضّلون مصالح شركاتهم قبل مصالح العالم كلّه. وهذه الشركات ستستوعب موظفين وعمالا تونسيين ربّما تعوّد الكثير منهم على «الركشة» والمكيفات والحصة الواحدة.. لذلك يجب ان نتهيأ من الآن للتأقلم مع الوضع الجديد كي لا نذهب تحت حوافر العولمة..!! فلسفة تونيزيانا تونيزيانا هي إحدى الشركات التي لا يوجد في قاموسها شيء اسمه الحصة الواحدة.. وقد تحدثنا الى الملحق الصحفي بهذه الشركة الزميل عبد العزيز جيلاني فلخّص لنا كل شيء قائلا: «أعمل في هذه الشركة منذ صيف .2002 في البداية كنت أشعر ببعض القلق عندما أرى أصدقائي يتمتعون بالحصة الواحدة. لكن بعد ذلك تعوّدت على نسق العمل.. وكل موظفي تونيزيانا تعوّدوا أيضا على نسق العمل الذي حوّلته الإدارة من نظام 48 ساعة في الأسبوع الى نظام 40 ساعة. وحتى في رمضان فإننا نعمل من الثامنة صباحا الى الرابعة مساء مع نصف ساعة من الراحة. أما لماذا تعوّدنا على هذا النسق وأصبحنا نحبّ العمل في تونيزيانا فلأن الشركة وفرت لنا أحسن ظروف للعمل. وأضافت لنا 5 أيام من الراحة خالصة الأجر فأصبح من حق الجميع التمتع ب 27 يوما من الراحة (تضاف لها الأحاد وأيام العطل الرسمية..) وعندما نعمل في ظروف طيبة فإن «الستراس» الذي نجده عند موظفي المؤسسات الأخرى لا نجده عندنا. وكل من يشعر بالتعب بإمكانه ان يرتاح بضعة ايام على حساب «الكونجي» إضافة الى كل هذا فإن للعمل بنظام الحصتين إيجابيات عديدة منها أنني عندما أخرج من العمل على الساعة الخامسة لا أجد ذلك الإكتظاظ المروري الرهيب.. كما ان الراحة بين الحصتين تسمح بتجميع القوة والعودة الى الحصة المسائية بأكثر حيوية وهذا له تأثير إيجابي جدّا على الإنتاجية في العمل». أما عن فلسفة تونيزيانا في العمل بنظام الحصتين فلخصها عبد العزيز جيلاني عندما قال: «أنا حدّثتكم عن رأيي الشخصي وأعتقد ان فلسفة تونيزيانا تتلخّص في عبارة شهيرة لمديرها الفرنسي السابق الذي قال: «لا يمكن لبلد على طريق النمّو ان يعمل نصف الوقت الذي يعمله بلد نام.. فبهذه الطريقة تزداد الهوّة اتساعا بينهما». تحقيق: جمال المالكي