تُفسّر "السندروم" أو المتلازمة في علم النفس على كونها مجموعة من الأعراض والعلامات المتزامنة، المرضية لأنها تعبّر عن حالة من التناقض الشديد وغير المنطقي بين جملة من الوقائع وما رتّبته من ردود أفعال غير منسجمة مع تلك الوقائع.. ومن أشهر هذه ال"متلازمات" أو "السندرومات" نجد "متلازمة ستوكهولم" التي تعبّر عن حالة التعاطف مع الجلاّد أو العدوّ، وقد تمت صياغة تعريف نفسي لهذه المتلازمة، بعد واقعة احتجاز أربعة موظفين داخل بنك في مدينة "ستوكهولم" من طرف أحد اللصوص الذي حاول سرقة البنك.. وبعد ستة أيام ومع إنهاء عملية الاحتجاز أمنيا بدا على المخطوفين أنهم قد بنوا علاقة إيجابية مع الخاطفين تحوّلت إلى تعاطف شديد ومؤازرة لهم أثناء محاكمتهم.. وكما برزت "متلازمة ستوكهولم" بشكل غير متوقّع، برزت اليوم متلازمة مشابهة تهمّنا كتونسيين وهي "سندروم" بن عليّ، طاغية الأمس والرئيس المستبد الذي تم "خلعه" بعد احتجاجات شعبية عارمة وثورة أطاحت بنظامه، وأجبرته على الهروب الى المملكة العربية السعودية، شغل حضوره بطرق مختلفة بداية شهر رمضان، كما وجد بعد إشاعة دخوله في غيبوبة ونهايته الوشيكة، من يتعاطف معه على وسائل التواصل الاجتماعي، ووجد شخصيات سياسية تطالب بحقّه في العودة والمحاكمة العادلة والبعض طالب بأنه من حق بن علي أن يكون مشمولا ب"المصالحة الوطنية" دون أحقاد ولا ضغائن، ووجد مواطنون في الشارع يأخذوهم الحنين إلى سنوات حكمه !!! غيبوبة بن علي ومرضه الشديد ووهنه وحنينه إلى أن يدفن في تونس أو قول آخرين أن بن علي أوصى بأن يدفن في المملكة العربية السعودية، فجّرت مواقف مختلفة منذ ليلة أوّل أمس عندما دوّن السياسي ورئيس حزب مشروع تونس، محسن مرزوق على صفحته الرسمية ليعلن أن الحالة الصحّية لبن علي "حرجة جدا" وأنه مع حق العودة له ولأبنائه ليدفن في تونس، ورغم تفنيد ما زعمه مرزوق رسميا من طرف محامي بن علي الأستاذ منير بن صالحة الذي أكّد أنه في صحّة جيّدة وأن كل ما يُقال مجرّد أراجيف خالية من الصحّة، إلا أن الإشكال يكمن في حالة التعاطف التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي وتبنتها بعض الشخصيات السياسية والتي تنمّ عن حالة من التناقض الشديد في مواقف "الضحّية المفترضة" إزاء "جلاّد الأمس".. حاضر بالغياب لم يمرّ الخطأ الذي اقترفته القناة الوطنية الثانية في أوّل أيام شهر رمضان دون ان يثير ضجّة وجدلا محتدما ويخلّف ردود فعل غاضبة ومستنكرة حتى من بعض الأحزاب الحاكمة، انتهت بإقالة مدير القناة الأولى والمشرف على القناة الثانية محمّد الأزهر فارس، ومردّ هذه الضجّة هو محتوى حلقة من برنامج ديني أنتجته القناة قبل الثورة وتمت إعادة بثه بالخطأ، وتضمّنت الحلقة تهنئة ودعاء للرئيس السابق زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، بمناسبة دخول شهر رمضان. وهذا الدعاء كان محلّ تندّر وتهكّم واستياء من المشاهدين ومحلّ تفاعل كبير من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي الذين جعلوا منها مادّة ثرّية للنقاش والجدال وكذلك مبعث للسخرية.. وبصرف النظر عن مآلات هذا الخطأ ومن يتحمّل مسؤوليته فان اللافت هو طبيعة النقاش الذي أثير حوله بين متمسّك بالخط الثوري وإدانة بن علي وسنوات حكمه التي اتسمت بالاستبداد والطغيان السياسي وبين "كافر" بالثورة وبمآلاتها وبالنخبة السياسية التي حكمت منذ الثورة الى الآن، وفشلت في تحقيق انتقال سياسي "آمن" ودون "انهاك" اقتصادي فتك بالمقدرة الشرائية للمواطنين وشحن المناخ الاجتماعي بموجات احتجاجية واستياء شعبي واعتصامات متواصلة عطّلت الإنتاج واستنزفت كل قدرات البناء والتأسيس لتحوّل ديمقراطي حقيقي يقطع عمليا مع النظام البائد .. وقد انعكس فشل النخبة السياسية في تحقيق "الانتقال الآمن" خاصّة على مستوى الظروف الاقتصادية والمعيشية في جعل المواطنين في الشارع "يتأسّفون" على سنوات وعهد بن علي وهذا ما يُلاحظ بسهولة في شهادات المواطنين مع وسائل إعلام أو حتى في مقاطع فيديو تنشر على مواقع الكترونية أو على الانترنات.. وهذا "الحنين" إلى الماضي يكشف بوضوح التناقض في المزاج العام للتونسيين الذين انتفضوا ضدّ بن علي واليوم يتأسفون على عهده لمجرّد أن الظروف المعيشية تدهورت. تطبيع سياسي في ذروة الحماس الثوري الذي طبع الأشهر اللاحقة لسقوط نظام بن علي، اختفى التجمعيون من المشهد واختاروا التواري خاصّة بعد قرار حلّ حزب التجمّع قضائيا وقرار منع المناشدين من خوض غمار انتخابات 2011، وظلّت بضعة شخصيات تجمعية فقط تحاول الدفاع عن النظام السابق، ومن أبرز تلك الشخصيات كانت المحامية عبير موسي التي أبقت على وفائها لنظام بن علي وكان تأسيسها لحزب الدستوري الحرّ محاولة جادّة للتنافس السياسي وفق رؤية وأفكار التجمّع وبخطاب يمجّد نظام بن عليّ وعهده وسنوات حكمه ونظامه.. وفي تحوّل مباغت للمزاج العام في السنوات الأخير استطاع حزب عبير موسي الذي يتبنّى خطابا استئصاليا، راديكاليا في علاقة خاصّة بحركة النهضة في أن يحقق نتائج في الانتخابات البلدية الماضية، كما استطاع قبله حزب نداء تونس الذي كان يضمّ رافدا "تجمّعيا" مهما أن ينجح في الانتخابات تشريعيا ورئاسيا، في مرحلة تطبيع أولى مع الناخبين وفي انسجام مع اللعبة الديمقراطية، ولم تقتصر الاستفادة من "المخزون التجمّعي" قيادات كانوا أو قواعد على حزب النداء حيث التحقت قيادات تجمعية بارزة بأحزاب كبرى وآخرها حزب نداء تونس الذي تأسس حديثا، وقبول التجمعيين ينمّ عن مزاج من التقبّل والأريحية في التعامل مع كل ما يمت بصلة لنظام بن علي سواء من خلال حزبه أو شخصه.. ولعلّ ما أثارته تدوينة محسن مرزوق التي دعا فيها إلى أكثر "رحمة" في التعامل مع ملف بن علي وعدم رفض عودته إذا أراد ذلك وما تلى ذلك من ردود أفعال منها ردّ فعل المحامي منير بن صالحة الذي اعتبر أن "بن علي بخير وأن محسن مرزوق أراد تحقيق "البوز" من خلال تدوينته" وأن الرئيس الهارب تناول الإفطار مع عائلته وأن أمراضه ناتجة عن تقدّمه في السنّ فقط، وأن لا خوف على حياته في الوقت الحالي.. بالإضافة إلى ردّ النائب بمجلس نواب الشعب والقيادي في حركة النهضة، العجمي الوريمي، الذي تمنى الشفاء لزين العابدين بن علي وفي علاقة بالجدل القائم حول عودته وقال أنه لا يحق لأي أحد أن يحرم أي مواطن تونسي يعيش في دولة أجنبية من أن يدفن في وطنه ولا وجود لقانون يمنع عودة أي تونسي.. وهذا الموقف وان يُفسّر باعتبارات إنسانية فان مسألة تكييفه سياسيا تدعو للاستغراب خاصّة وأن أبرز ضحايا بن علي كانوا من الإسلاميين وكذلك بعد فشل مسار العدالة الانتقالية في رتق جراح الماضي وتحقيق المصالحة الشاملة.. ورغم أنه لم يصدر إلى الآن قرار رسمي من الدولة حول الموافقة على عودة بن علي من عدمها إلا منسوب التعاطف "الشعبي" و"السياسي" مع بن علي ونظامه وسنوات حكمه القمعية خاصّة في علاقة بحرّية الرأي والتعبير تطرح عدّة نقاط استفهام حول هذه العلاقة "الهجينة" بين الجلاد والضحية.. منية العرفاوي