حين كشف عدنان المنصر مدير حملة المترشح للرئاسة المنصف المرزوقي في برنامج تلفزي نهاية الأسبوع المنقضي، ان أكثر من نصف نواب نداء تونس (47 من أصل 85) كانوا قيادات بارزة في التجمّع، لم يكن الأمر مفاجئا، ولا أثار ردود فعل بحجم وقوّة تلك التي أثارتها دموعه المنهملة بسبب خوفه من العودة إلى سجن لم يدخله يوما. وفي واقع الأمر، إذا اعتبرنا الرقم الذي قدّمه المنصر صحيحا يمكننا القول إن أقل بقليل من ربع نواب الشعب الذين اختارهم اليوم كانوا سابقا من جلاّديه. ويمكننا بسهولة أن نتعرّف وسط الوجوه الجديدة التي ستؤثّث المسرح السياسي لخمس سنوات قادمة في قبّة البرلمان، على بعض الوجوه التجمّعية المعروفة التي خدمت النظام القديم ورأسه المخلوع، بشكل "فذّ". وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن من بين نواب نداء تونس من شغل خطة كاتب عام الجامعة الدستورية ببنعروس، ومنهم من كان عضو لجنة مركزية، ومن كان كاتبا عاما لطلبة التجمّع الذراع الاستخباراتي والعمليّاتي للحزب الحاكم السابق في الجامعة. كما سنجد بعض الوجوه التجمّعية المعروفة من بين نواب أحزاب أخرى كالمبادرة التي شغل أحد نوابها خطة معتمد بمرناق (معروف أنها خطّة لا يحصل عليها غير التجمّعيّين المرضي عنهم). فهل هي متزامنة ستوكهولم أوقعت الضحيّة في عشق الجلاّد؟ عاشقو الجلاّد في الثالث والعشرين من أوت 1973، قام فارّ من السجن بسطو مسلّح على بنك في ستوكهولم واحتجز أربعة موظّفين كرهائن. دام الاحتجاز والمفاوضة ستة أيّام بلياليها، نتج عنها تحرير الرهائن وسجين آخر كان شريك زنزانة للخاطف. لكنّ الغريب في الأمر أن الرهائن حين وقع إخلاء سبيلهم لعبوا دورا هاما في الدفاع عن مختطفيهم ضدّ قوّات الأمن وحتّى أمام المحكمة بل وواظبوا على زيارتهم في السجن، كما عاشت الرهينة "كريستين" قصّة حبّ عاصفة مع أحد مختطفيها. أطلق على الظاهرة متزامنة ستوكهولم، وأصبحت مجال بحث نفسي لدى المختصّين. لكن أن تتحوّل الظاهرة إلى حالة عامّة تطال بلادا بأكملها، عرفت ما أطلق عليه ثورة ضدّ نظام كان التجمّع رمزه الأكثر مقتا، فهذا يتجاوز اختصاص أطبّاء النفس إلى علم الاجتماع بفروعه، ويدعو إلى التأمّل من قبل السياسيين. وإذا الموؤودة سئلت... حين اندلعت أحداث سيدي بوزيد بشرارة في جسد البوعزيزي، وقبلها بسنتين أحداث الحوض المنجمي (وما بينهما)، كان من الجلي أن الموجات الزلزالية بدأت تتصاعد لتعصف بالنظام القائم بعد أن عجز عن تذليل التناقضات الاجتماعيّة (ناهيك عن سدّ هوّتها). ولئن كانت شعارات المرحلة الأخيرة قبل إسقاط النظام سياسيّة، فإن جوهرها كان وظلّ وسيبقى اجتماعيّا واقتصاديّا. وحين تأسّست - بعد فرار بن علي – هيئة لتحقيق أهداف الثورة، كان آخر ما سجّل في مداولاتها واهتماماتها تلك المسألة الجوهرية تحديدا. وحين تشكّلت سلطة سياسية جديدة "ثلاثيّة الجرّ"، كانت أولى أولويّاتها ملء خوانها الخاصّ بما لذّ وطاب من الدولة، متجاهلة في نفس الوقت الطريق الذي أوصلها إلى الكرسي والأصوات التي رفعتها إلى سدّة الحكم. أكل العفو التشريعي العام صابة البلاد، وأتمّ الإرهاب والدم مسح الطاولة. وشهدت العيون المفقوءة لشباب سليانة المنتفضة على اغتيال الثورة. وألقيت بقايا الوليمة وأكياس فضلاتها في باحة اتحاد الشغل الذي كان الراعي الأوّل للمسار الثوري. لم تدّخر تلك القوى - التي لم يسمع لها هسيس ولا شوهد لها حسيس في ساحات البلاد المشتعلة قبل سقوط رأس الجلاّد (إلاّ ما كان من ظهور مشهدي في الفضائيّات) - جهدا في إجهاض كلّ بذرة تتسامق بعودها نحو سماء العدالة الاجتماعية. تشهد على ذلك حملات القمع الممنهج التي طالت كلّ حراك احتجاجي من أجل التنمية أو لمطالب اجتماعية. وتوقّفت عجلة الدولة عن الدوران إلا في اتجاه عقارب ساعة الحكّام الجدد. رعيت روابط العنف وولدت اليد الزرقاء بعملية قيصريّة في أحضان الحكّام الجدد. أدلف السلاح الذي يغتال كلّ يوم حلم التونسيين ودُرّبت الأيدي التي تطلقه على صدور التونسيّين ولم يحرّك ساكن القصر ساكنا. بل تشهد أرملة الشهيد البراهمي أن زوجها حين طالبه بالتدخل لوقف نزيف السلاح وإنقاذ البلاد أجابه أنّ هذا السلاح إنما هو موجّه لصدور الأزلام. وحين حصد السلاح صدور جنودنا، صاح مدافعا عن جنوده "إنما هم فقراء يقتلون فقراء..." خلاصة الحكاية أن سياسيّينا فعلوا كلّ ما بوسعهم لوأد الثورة بتجاهل أسبابها الحقيقية العميقة والاكتفاء بقشرتها السياسية والحقوقية. وكما الحال مع الجراح التي لا تعالج، تعفّن جسد البلاد الجريح، وتعفّنت الثورة، حتّى غدت الضحيّة تحلم بعودة جلاّدها وإن في ثوب جديد. الغريب في الأمر أن من استنكر عودة الجلاّد من جديد لم يكن يوما أحد ضحاياه المعروفين. فلا يذكر التاريخ الذي اختصّ فيه المنصر، أنّ هذا الأخير عرف السجن يوما من أجل أفكاره وقناعاته، ولا حتّى من أجل التشويش في الطريق العام. إلاّ إذا اعتبرنا التشويش على المسار الثوري جريمة يعاقب عليها القانون. لا نجد من تفسير لدموع المنصر إلاّ وعيه العميق بمتزامنة ستوكهولم المنتشرة في صفوف التونسيين، وخشيته أن يقع في عشق جلاّد قد يكتشفه يوم الحساب. ولن نستغرب أن نجده ذات انقلاب ربيعي محتضنا ذاك الجلاّد مدافعا عنه بكلّ ما أوتي من "غوبلزية" و"بسيّسيّة" لاحظ الكثيرون أعراضها في مشهد تلفزي. والخلاصة دائما... أنّ المفجوع من عودة التجمّع نسي أن يسأل الموؤودة عن قاتلها والتي لا شكّ ستشير بنانها إليه.