دخل المقهى غاضبا، ساخطا، متأفّفا، مزمجرا، مقطب الجبين، مكفهرّ الوجه، شفتاه ترتعشان وعيناه بارزتان، طلب قهوة وهو يضرب كفا بكف، يحرك رأسه يمينا وشمالا، ينفث دخان سيجارته الذي يكاد يغطي ملامح وجهه، ويجتاح شاربه الكثيف، متمتما، متلعثما، متلجلجا، منفجرا: «يلعن بو الوقت، يضايقونني، يشوهونني، يلاحقونني، ويعتدون عليّ، كل ذلك لأني منضبط و»خدّام»، ولا أحد يحميني من «عجرفة» المستهترين، ما هذا الزمن المعكوس، المجتهد وصاحب الحق الناس عليه تدوس، واللامبالي و»المتعنطز يرفع فوق الرؤوس» ؟ ردّ عليه صديقه، وهو يتحسّر: يا صاحبي نحن في زمن المتناقضات، المجتهد يحاسب على اجتهاده، والمنضبط يعاقب على انضباطه، اليوم في كل مكان، المتطاوسون يصولون، التفّه يجولون، العجزة يعربدون، الفارغون متمرّدون، الانتهازيون ثائرون، و»الطمّاعة» يزمجرون»، مات الضمير وشيع الى جثمانه الطاهر منذ زمان، «الا من رحم ربك»، وإذا مات الضمير يصبح لون الدم «عصيرا ممتعا»، والفشل نجاحا، والتعالي تواضعا، والخيال حقيقة. عاد صاحبه يفرغ قلبه: «اه يا صديقي أسمعوني شتائم على كل الألوان، وكلام تقشعر منه الأبدان، أما الدعاء بالشر فقد يخجل منه حتى الحيوان، من قبيل «جماعتنا فدّو وأمشي لا يردّو»، «غلّى علينا الخبزة يعطيه طمزة» ، «خدّام يعطيه ضربة برزام» ، «يرقد لا يقوم بجاه الحيّ القيوم». ليس ما ذكرناه مشهدا من فيلم سينمائي، ولا فصلا من عمل مسرحي، ولا مقطعا من أثر روائي، وانما لقطات حية وواقعية، من مقهى شعبي، يعكس الواقع المأساوي في ظل زمن «الفوضى الخلاقة»، الذي تراجعت فيه قيمة العمل الى أدنى مستوياتها. وسط هذا الحوار غير المألوف، الذي وصلني صدى تفاصيله الدقيقة، وفي ثنايا هذه «الغمامة»، قفزت الى ذهني مأساة عامل بفندق تركي، أوردتها مؤخرا صحيفة «حرييت» التركية، أجهز عليه زملاؤه، لا بسبب الخيانة ولا لعدم محافظته على الأمانة، ذنبه الوحيد المسكين انه تفانى في عمله، و»جرمه « الأكبر انه تعود على الانضباط، بعد ان أثبتت التحقيقات ان أحد قتلته قال له قبل وقوع الجريمة» أنت تعمل بجد، ونحن نعدك مثالا سيئا، مديرنا يريد منا أن نكون نسخة منك». نحن في زمن التناقضات والتباينات، زمن الجعجعة و»الجغجغة» و»الوعوعة» و»النقنقة»، ان تعمل، تكد، تجد وتجتهد، فهذا يعني لدى أصحاب النفوس المريضة، انك «بيوع» و»قواد» ، و»غلّيت عليهم الخبزة « بمنطق بعض التفّه والفارغين وخاليي الوفاض، لابد أن تكون متخاذلا، متهاونا، مستهترا و»كركارا» بل يجري «التكركير» في عروقك لتروق لهم، والا ستظل في مرمى سهامهم، وخناجرهم، لما تستفزهم حيويتك، يوجهون لك حممهم، و»قذائف» أسلحتهم الخفيفة والثقيلة. مثل هؤلاء احترفوا التشويه والتفتين، ينفثون سمومهم أينما كانوا، يتهامسون، يتغامزون ويلمزون، همهم التشويه والافتراءات والمغالطات، ونشر الادعاءات، يناصبونك العداء لالتزامك، يمقتونك لانضباطك، يحقدون عليك لجديتك، يكرهونك لمثاليتك، يحسدونك لمهنيتك، ينقمون عليك «لوجه الله»، شغلهم الشاغل التشهير و»التنبير» والتحقير والتتفيه، وهم في الواقع، أتفه من التفاهة وأسخف من السخافة، أوضع من الوضاعة وأسفل من السفالة، وصدق أجدادنا لما قالوا «الجمل ما يراش حدبتو». ومن المصادفات الغريبة ان هؤلاء يكونون عادة أول المطالبين بالترقيات والامتيازات، تجدهم في «كولوارات» الوزارات والمؤسسات، يسألون «صبو والا ما صبّوش»، ومع صرف الأجور يذوبون ويتبخرون، يقل ضجيجهم و»حسهم» و»دبكهم»، ويغيب معهم «بارازيتهم» و «عسلهم» و»سكرهم» ، وان لمحتهم من جديد، تجدهم يسألون و»ينسنسون» عن موعد صرف منحة الانتاج، ولا تسمع منهم الا عبارة «وقتاش البريم»، لا يبالون بعمل، ولا يهتمون بواجبات، وان احتج عليهم أحدهم يوما، أو لامهم يردون عليه: «آش يهمّك... من وكلك لمحاسبتنا؟.. من فوّضك لمراقبتنا ؟.. وقتاش تدخل «ببوشتك»؟ الواقع، لا خير مع المتطاوسين، لا صلاح مع التافهين، لا فلاح مع الانتهازيين، ولا أمل في التقدم ولو شبرا واحدا، وهؤلاء يمرحون و»يتعنترون»، خدمات رديئة، مكاتب فارغة، مردودية تطرح ألف سؤال وسؤال، والمواطن يدفع فاتورة التسيب والاستهتار. لا تستغربوا، مادام الموظف التونسي يعمل بمعدل 8 دقائق في اليوم، والخسائر تقدر بأكثر من مليون و80 ألف يوم عمل بسبب الغيابات، وعدم التزام اكثر من 30 بالمائة من الأعوان العموميين بالتوقيت الإداري. لا تتعجبوا، مادامنا نتصارع مع «الأصفار»، وكل مؤشراتنا الاقتصادية «حمراء» ، اذ من المتوقع ان يبلغ قائم الدين الخارجي متوسط وطويل المدى في موفى 2020 ، حوالي 957ر80 مليار دينار . لا تندهشوا، ما دامت الحكومات المتعاقبة تعلم ان أكثر من 14 ألفا من عمال شركات البيئة والبستنة بقفصة وصفاقس وقابس، لم يعملوا يوما واحدا، ولم يغرسوا ولو شجرة واحدة، في وقت ان كتلة الأجور المخصصة لهم تبلغ 110 مليون دينار سنويا. لا تُصدموا مادامت الساحة تنتهك فيها القوانين، تغتصب فيها الاعراف، وترتكب فيها التجاوزات، تحت حماية حزبية، والتونسي أينما كان يبحث باستمرار عن مبرر ل»الفصعة». من المؤكد انه حان الوقت لوضع حد لهذه العقلية المفلسة، «المسوسة»، «المعششة»، والتأسيس لإعادة قيمة العمل، والشروع في الإصلاح الاداري، الذي تجاهلته، وتناسته الحكومات المتعاقبة، والمسؤولية الأكبر اليوم يتحملها محمد عبو، المقترح لحقيبة وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري ومكافحة الفساد.