ليس المطلوب من التونسيين اليوم فتح ملفات التقييم المعمّق للحالة الكارثية التي وجدنا عليها مستشفياتنا العموميّة، ولا خوض معركة محاسبة المتسببين في ذلك، ولا المطلوب من قوى الشعب الوطنية والاجتماعية التي طالما كانت المحامي والمدافع الشرس عن القطاع العام الدخول في جدل محموم مع أعدائه قد يلهيها عن المعركة الحاسمة ضدّ "جائحة كورونا". وقد يكون من المستحسن لا من باب التواطؤ أن نتجاوز ونغمض أعيننا عن الكثير من الحقائق الصادمة التي لا تستحق تدليلا، ونجمّد الغضب المتأجج في صدورنا من وقاحة المسؤولين عن هذا الواقع المزري ومزايداتهم المقززة. لكن ليكن واضحا للجميع أن تأجيل بعض المعارك رغم ضرورتها ومشروعيتها والتحلّي بأكبر قدر ممكن من الصبر الاستراتيجي وكظم الغيظ يجب ألاّ يلهينا في الوقت نفسه عن استخلاص الدروس والعبر ممّا وقع وسيقع، وألاّ ننسى، وألا نثق فيمن خدعنا ولو مرّة واحدة فكيف بمن خدعونا وخانونا مرارا وتكرارا، وألا نسلمهم رقابنا أبدا كما فعلنا سابقا ليكونوا المتحكم في خياراتنا الوطنية القادمة وتحديد مصير أجيال المستقبل وملامح تونس الغد، والانتباه جيدا إلى شعاراتهم المضللة "الوحدة الوطنيّة" و"التوافق الوطني" و"الانصهار ونسيان الخلافات" وحكمهم المخادعة بأنّ "كورونا تجبّ ما قبلها". لعلّ من أكثر المفارقات الغريبة والعجيبة والمثيرة للقلق والاشمئزاز أيضا التي نسجّلها اليوم في زمن "الكورونا" أنّ الخبراء الاقتصاديين والماليين والمحاسبين والزعماء السياسيين أنفسهم الذين احتلوا المنابر الاعلاميّة طيلة العشر سنوات التي أعقبت الثورة التونسية يمارسون القصف الدعائي المكثّف على عقولنا وضمائرنا ينظّرون بلا توقّف للرأسمالية في أكثر وجوهها توحشا ولليبرالية المنفلتة باعتبارها الخلاص الوحيد لتونس من أزمتها الاقتصادية ويطالبون الدولة التونسية برفع يديها استسلاما لاقتصاد السوق وتسريع الدخول في حمية تقشفيّة طبقا للإملاءات والشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي، بل لعل بعض غلاتهم لا يترددون في التطوّع باقتراح إجراءات أكثر تطرفا "مكملات تقشفيّة" تضاف إلى وصفات الصندوق، لا تراعي في معظمها السلم والتوازن الاجتماعي بالدفع نحو فرض إصلاحات اقتصاديّة موجعة مثل التفريط في بعض المؤسسات العموميّة الخدمية أو التقليص أكثر ما يمكنها في خدماتها الاجتماعية المسداة إلى المواطنين بمن فيهم الأكثر فقرا وهشاشة، وقد نجحوا فعلا وبالتواطؤ مع الأحزاب التي تداولت على الحكم بعد الثورة من فرض إجراءات التقليص في ميزانيات الوزارات الخدمية كالتربية والنقل والصحّة حيث تم تسجيل التخفيض في ميزانيات المستشفيات العموميّة بنسبة 50% في السنوات الثلاث الأخيرة منذ سنة 2017 وإيقاف انتدابات الكوادر الطبية وشبه الطبيّة وعدم تعويض المحالين على التقاعد والمرضى والمتوفين والتقليص في الإمكانيات المادية الموجهة إلى التكفل بالمرضى من ناحية الغذاء والدواء إلى جانب عدم الاهتمام بنزيف الكفاءات الصحية التي غادرت البلاد نحو وجهات أوروبية وخليجية. من المفارقة أن هؤلاء الخبراء والسياسيين أنفسهم المبشرين بالعصر الليبرالي السعيد والأسواق المفتوحة والبلدان المشرعة الأبواب والعالم القرية ينتصبون اليوم في المنابر ذاتها التي طالما احتلوها أو فتحت لهم ليقصفونا منها لكن هذه المرة للدعاية والتنظير لدولة الرعاية الاجتماعيّة والتركيز على دور القطاع العام في تجاوز هذه الأزمة بل وتحميله والمستشفيات العموميّة وحدها دون القطاع الصحّي الخاص بمصحاته ومخابره وبإطاراته الطبيّة وشبه الطبية وإمكانياته المالية المهولة المسؤولية عن إنقاذ البلاد. هذه الدعوات نفسها التي طالما تبناها الاتحاد العام التونسي والأحزاب التقدميّة والاجتماعيّة واعتبروها صمّام أمان الشعب التونسي ودولته الوطنيّة فتمت شيطنتهم وشنت عليهم الهجمات الإعلاميّة وتجند الذباب الالكتروني للأحزاب اليمينيّة الدينية منها والليبرالية والشعبويّة للتهكم عليهم ونعتهم بالحنين إلى "الأنظمة الاشتراكيّة والشيوعية والقوميّة" واتهامهم بتعطيل الإصلاحات الكبرى وإعاقة تطور البلاد. إن تغيير مواقف هذه القوى اليمينية اليوم وتصدرها المنابر الإعلاميّة مبشرة بضرورة إعادة دور الدولة الاجتماعي وذرف دموع التماسيح على واقع مستشفياتنا العمومية المتدهور والمصير الذي يتهدد التونسيين إذا ما استفحل هذا الوباء لا يمثّل صحوة ضمير وطني كما يحاولون إيهامنا بقدر ما هو إعادة انتشار جديدة واتباع تكتيك "أفضل طريق للدفاع هو الهجوم" وركوب لموجة "عودة دور الدولة" وتفصّ ذكي من المحاسبة اللاحقة عن كونهم مثلوا لسنوات "محامين عن شيطان التوحش الليبرالي" والسبب في تخريب القطاع العام ومنه منظومتنا الصحية شبه المنهارة قبل الثورة وبعدها.