رغم جولاته في عدد من المهرجانات داخل البلاد التي سبقت عرضه بمهرجان قرطاج الدولي والتي من الطبيعي أن ينتج عنها بعض الإرهاق كان الفنان نور مهنا في لقائه بجماهير هذا المهرجان ليلة الثلاثاء سخيا وكريما حتى ليبدو هذا العرض وكأنه الأول في أجندته. دام العرض ثلاث ساعات ود الجمهور الذي أقبل بأعداد وافرة لو أنها تضاعفت وأبى أن يترك الرجل يغادر الركح إلا بعد أن استمع إلى المزيد والمزيد. انطلق العرض بمعزوفة على الكمان للفنان نذير نواس قائد الفرقة الموسيقية المرافقة لنور مهنا. استحسن الجمهور هذه المقدمة الموسيقية وهي لحن لأغنية للفنان عبد الحليم حافظ وردد حتى كلمات الأغنية وكانت البداية منبئة بنوعية السهرة. شيئا فشيئا مع اندماج الفنان في العرض وتتالي الأغاني والمواويل وآهاته التي لا يعرف سرها غيره بدأ السؤال يحيرنا. ماذا ترك نور مهنا لنا لنقول بعد أن قام بالأهم. ماذا ترانا نقول سوى أن نضم صوتنا للجمهور وأن نهتف لله درك يا فنان. لقد شنفت الآذان وأمطرت الحضور بالطرب. لقد غنيت فشرب الحضور من عيون الفن الأصيل وما ارتووا. لقد اشعلت مع كل أغنية جديدة ومع كل حشرجة صوت ومع كل الآهات أشعلت ظمأهم وأيقظت الرغبة في السماع التي ما فتأت تتزايد كلما اندفع صوتك مدويا في أرجاء المسرح. لله درك يا فنان صاحب الحنجرة الذهبية ذلك الصوت الذي يغمرنا ويملك الحواس. ذلك الصوت الهادر. أترانا بقادرين على اختزاله في وصف. لقد وددنا عبثا لو أن كل اللغات تختزل في واحدة حتى نجد المصطلحات التي تصف هذه الموهبة الربانية وصفا شافيا. إن صوت نور مهنا لا يمكن إلا أن يكون نعمة من السماء... هذه الإمكانيات الرهيبة وتلك القوة الخارقة للعادة وذلك الإحساس المتدفق كبحر متلاطم الأمواج نعمة من السماء تلامس الوجدان وتمس شغاف القلب. وهو لم يبخل على جمهوره بهذه النعمة ولم يقتر تقتيرا. لقد كان كريما في استرساله في الغناء. الغناء من القلب وبلواعج القلب. كريما في لطفه وإعلان حبه للجمهور التونسي ولتونس وكريما في نبل مشاعره إزاء البلاد التي تستقبله في كل مكان وفي كل مهرجان بحفاوة بالغة حتى أننا صرنا نلاحظ سباقا من أجل إحاطة الرجل بالتبجيل اللازم. وماكان نور مهنا بغير أهل لذلك. هذه القامة الفنية العارمة بما حبيت به من حنجرة استثنائية قليل وجودها عند العرب اليوم لا تبخل بذرة من عرقها على الجمهور. حتى أنه ليتسامح إزاء جمهور يكاد يطلب منه المستحيل. ثلاث ساعات دون راحة وثلاث ساعات غناء تستنزف القلب والأعصاب والجمهور لازال يطالب بالمزيد. ونور مهنا بلباقته المعروفة وبلطفه المستحب يجيب كل الطلبات برقة متناهية وبوعد حميمي بالوفاء بالطلب. يفهم نور مهنا جيدا وهو العالم بالوسط الفني حاجة الجماهير العربية إلى صوت كصوته يشفي النفوس من عللها ويريح القلوب من عنائها وما أكثر ما تعاني القلوب العربية والنفوس العربية اليوم. لذلك يسترسل في الغناء ويستمر عن طيب خاطر ليس ذلك فحسب بل مع كل طلب هدية من نوع " تكرم عيونك حبيبي ". الجمهور كان ليلتها في حالة من التجلي. إن لم يرافق الفنان بالغناء فإن الأيادي ترتفع معبرة بطريقتها الخاصة عن انسجامها الكامل. وكلما تنتهي أغنية إلا وترافقها عاصفة من التصفيق والهتافات والإعلان في حماس شديد عن الإستحسان والشكر ودائما طلب المزيد . الشرب من منابع العيون جمهور مهرجان قرطاج الدولي كان مختلطا ليلة الإربعاء. لم تكن السهرة حكرا على الكهول كما يمكن أن يتصور بعضنا بل كان حضور الشباب والشابات حضورا متميزا أما كلمة السر التي دارت بين الجميع فهي حسن الإستماع... أجواء طيبة خيمت على كامل السهرة رغم الخلل في الصوت من حين لآخر مما دفع نور مهنا للإحتجاج علنا أمام الجمهور . قدم نور مهنا خلال العرض مجموعة من الأغاني سواء من رصيده أو من التراث العربي . . ومعروف عنه اتقانه لأغاني صباح فخري ووديع الصافي و هما من القامات الفنية البارزة عند العرب. انطلق سيل الأغاني بأغنية " يا قمر" ثم "حكم الهوى" و"رق الزمان" و"ابعثلي لي جواب" و"لو كنت ناسي "وطبعا " وحشتيني " أغنيته المشهورة والمطلوبة و"ليلتين وليلة" و"لعل وعسى" وغيرها خاصة من الأغاني اللبناينة والشامية والعربية المتداولة. طبعا لا نخال سهرة لنور مهنا تكون كاملة إن لم يقدم البعض من مواويله التي يسحر بها القلوب، تلك المواويل التي يزخرف بها العرض والتي تعطي فكرة عن قيمة صوته ومدى امكانياته وتحكمه في تقنيات آداء الطرب . لم يكثف نور مهنا خلال عرضه الأخير بقرطاج من المواويل على خلاف عادته في المواعيد السابقة مع الجماهير التونسية. لكنه أتحف الحضور بالبعض منها خاصة مع نهاية العرض. و قدم بالمناسبة أغنية "ياما يا غاليا" من التراث التونسي التي أثارت عاصفة من التصفيق وجعلت بعض الجماهير تقف للتراقص على أنغامها كما قدم أغنية "ولا مرة" التي لحنها ملحم بركات وتؤديها أمينة فاخت وكذلك مقاطع من أغاني لأم كلثوم. وتخللت العرض ارتجالات على عدد من الآلات الموسيقية حيث اقترح نذير نواس قطعة أخرى بدعوة من نور مهنا أمام تشجيع الجمهور كما قدم عازف القانون بعض التقاسيم على آلته. كانت الفرقة المصاحبة لنور مهنا والكورال يبذلون جهود كبيرة كامل السهرة التي خلناها لن تنتهي أبدا بسبب اصرار الجمهور على مواصلتها ولولا ما طرأ من حين لآخر من خلل تقني أو في التنسيق بين أعضاء الفرقة التي اضطرت المطرب لقطع أغنيته في بعض الأحيان لاعتبرنا السهرة من أفضل سهرات مهرجان قرطاج الدولي في دورته الجديدة. لم يكن الجمهور على كل ليعبئ بهذه التفاصيل لأن الأهم في العرض كله حنجرة الفنان وطريقة آدائه للطرب العربي الأصيل وقد أظهر هذا الجمهور لهفة وتوقا كبيرين إلى الإستماع إلى الأغاني العربية من الأصل أي من منابع العيون ولم يكن ليرى بأفضل من نور مهني ليجعله يشرب من هذه العيون. ولا ندري هل نكون قد أنصفنا الرجل لو أطلقنا على نجم سهرة الثلاثاء بمهرجان قرطاج الدولي في دورته الرابعة والأربعين "بافاروتي العرب".