لن يقرأ بعد اليوم شعره بكل ذلك الوقار على ركح المسرح البلدي. من كان يتوقع أن تكون الأمسية التي قدمها في الدورة الأخيرة من أيام قرطاج المسرحية، اللقاء الأخير مع جمهوره الواسع في تونس؟ لا أحد كان يعلم بذلك ،غير الموت . لا أحد كان متهيئا لرحيله المفاجئ: ففي أمسيته الأخيرة في بلادنا كان يقرأ على الجمع الغفير قصيدته الديوان " الجدارية"، التي وصف فيها صراعه مع الموت ومع المرض في الأزمة الصحية ،التي ألمت به قبل سنوات. تلك الأزمة التي حملته إلى عوالم من الأسئلة لم تكن أساسية في شعره، فصورتها - أي الأزمة- قصيدته كمنازلة انتصر فيها محمود درويش شاعرا، يباغت الأحداث العادية ويحولها إلى تعلات لمساءلة الذاكرة والجسد والانساني، وهو يتردد بين القوة والضعف والقدرة والعجز. لن نعيش متعة الانصات إليه، وهو يُلقي قصائده بهيبة كل الشعراء جميعا. رحل الرمز الشعري الكبير، الذي كان حجة كل رافض لأطروحة أزمة الشعر العربي الحالي، تاركا وراءه إرثا شعريا غزيرا وعالي القيمة الابداعية. إنه شاعر لا يشبه أحدا وإن حاول عديد الشعراء التشبه بقصيدته وبأدواته الشعرية وبمعجمه الشعري. كان متفردا في الموهبة وفي المشروع الشعري الثقافي، الشيء الذي جعل منه نجما ساطعا وأنموذجا متفردا . صحيح أن محمود درويش شاعر كبير وقامة ابداعية حققت الاجماع النادر حولها ولكن تألقه كشاعر متميز، لم يكن فقط نتاج موهبة فذة، بل يعود إلى عدة أسباب لعل أولها طبيعة تعاطيه مع الشعر إذ جعل منه جوهر حياته وأولويته القصوى. لم يكن للشعر شريك في حياة محمود درويش ولم يخلص لشيء في حياته كما أخلص للقصيدة . لذلك فإن تميزه ونجاحه كشاعر كبير ،تلتف حوله الجماهير وتلهث وراءه وسائل الاعلام وتُطبع مجموعاته مرات ومرات ويُترجم شعره إلى لغات العالم، هو نتاج إخلاص هائل للشعر. رجل ضحى بالزواج وبالبنين مخيّرا التفرغ للشعر وتجنب كل ما يمكن أن يشتت انفعالاته وجهده وتركيزه. فالشعر هو إرث محمود درويش الوحيد. وياله من إرث عظيم. وإلى جانب الإخلاص للشعر والتعبد في محرابه أكثر من نصف قرن من الكتابة، فإن قيمة محمود درويش تكمن أيضا في شجاعته وفي القدرة على الانقلاب على قصيدته وعلى أدواته الجمالية. وعندما شعر أنه مطلوب منه كشاعر شجاع أن يمحو عقدا ويبرم آخر مع قارئه، لم يتوان عن خوض المغامرة الصعبة، فترك الصوت العالي والقضية في حضورها المباشر الطاغي مسافرا إلى مناطق شعرية مغايرة، يتم فيها الانصات لما هو ذاتي وحميمي وانساني ،مقيما حوارا متوالدا مع الذاكرة والجسد والموت والحياة والحب بأدوات شعرية متمنعة يحضر فيها الرمز واللغة المكثفة والسرد والتفاصيل. ومثل هذا التحول في تجربته الشعرية الذي أعلنت عنه مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيدا" الصادرة في منتصف التسعينيات ،ليس في متناول كل الشعراء. ذلك أن الشاعر الذائع الصيت عادة لا يُغامر بقارئه ويسعى إلى أن يُجاريه فيما تعود عليه منه. ولكن محمود درويش كسر هذه القاعدة وتحلى بالشجاعة فخاض الانقلاب الصعب على نفسه وعلى قصيدته ونجح في المغامرة وبرهن على أنه شاعر يمتلك خصوبة نادرة في صنع الدهشة مرارا. لذلك فإن محمود درويش لم يرحل كما أذاعت وكالات الأنباء كذبا ولا يمكن لمثله أن يرحل وقد ترك لنا ما يجعله حيا يرزق اليوم وغدا. وترك لنا متسعا من الزمن ليعيد مريدوه قراءته واكتشافه مرات غير متناهية. وفي كل مرة نرى وجهه في مرآة شعره الشفاف نسأله ببراءة كل مريد صادق: لماذا تركت الحصان وحيدا يا محمود درويش ؟ وهل أن قلبك هو من أنهك الشعر أم أن الشعر قد أنهكه؟