في سفر طويل كان يسكنه جنون نحو صحو، وشعب كان معه في الطريق يقول سر لا تقف... سر لا تقف واحلم فالأحلام الكبرى كما الطريق بدايتها خطوات، وأن الشمس مازالت عادلة وما يزال في الوطن رجال وكرم ولوز وتوت. في سفر دائم تسكنه النوارس وأغاني الرعاة وأزقة القدس العتيقة الملتحفة بكنائسها ومساجدها كأنه حوار الروح مع الزبد واختلاط الامنيات مع الذكريات... رحل، رحل درويش وكان الشارع مكتظا وكان المطر رذاذا يغسل حقول التين والزيتون وأبى أن يغسله. في سفر بعد لا يمكن كأنما الكل أذهله أن تنحني فمشى في يومك كرم اللوز وتوقفت الساعة بدون عقاربها في منتصف القلب.. تدق صمتا بعد السفر. في سفر نسيت معه حدود قلبك كلما تنهدت سفرجلة فلم يبق لك سوى رصيف الحلم والاشعار وبقايا حقيبة كلما آخيت بلدا إلا ورمتك بها فيستقبلك السفر. في سفر دائم كان الوطن هو السفر وورد شاخ وتساقط، ورد أقل وحصان ترجلت عنه أخيرا وأضناه السفر... كل الشوارع كانت عناوينك... كل الارصفة كانت منازلك، خبزك زادك وحلمك أمنيات وبعض من وطن. رحل عنا درويش، رحل عنا أخيرا ومن يقع في الحب يجب ان يرحل... هذه ابنتك من الجليل جاءتك وقد تركت حزنها وحملت قهرها على حاجز قلنديا العسكري الاسرائيلي لتصرخ غاضبة وهي تعبره لأول مرة، كان اللّه في عون الفلسطينيين على القهر الذي يعيشونه يوميا... كنت أبكي على محمود درويش لكن الحاجز أضاف إلى حزني شعورا بالمرارة والذل والمهانة. هم مسكونون بالكراهية والتدمير... وهم عابرون في كلام عابر سيتركون لنا يوما أرضنا فلنا فيها ما نعمل ولنا كل الدنيا ولنا ما ليس لهم فليخرجوا من أرضنا، من حلمنا، من برنا، من بحرنا، فلنا ما نعمل. رحل عنا درويش، رحل من علمنا الحياة دون أسلاك شائكة وجدران فاصلة... واحلام تفتشها الجمارك... لينبت العشب فوق قبرك الآن أكثر وأكثر وورد أكثر وأكثر بعد أن كان أقل.