الحدث العالمي في الايام الاخيرة تمثل دون شك في الالعاب الاولمبية التي دارت بالعاصمة بيكين من 8 أوت الجاري إلى 24 من نفس الشهر. كان حدثا بلا منازع ولم تستطع حتى التدخلات العسكرية لروسيا في منطقة القوقاز على خطورتها , لم تستطع تحويل الانتباه عن هذه الالعاب. ما هو سياسي تراجع إلى مرتبة دون وفقدت بعض النزاعات الملتهبة في العالم سيطرتها على العقول حتى أن المشكل الايراني مع الغرب غاب عن الاذهان لفترة ما. هو سياسي حل في مرتبة ثانوية لتستحوذ الالعاب الاولمبية على كامل اهتمام الناس تقريبا سواء كانوا هناك على عين المكان أو شاهدوا هذه الالعاب مباشرة على شاشات التلفزيون ليتأكد بذلك أن الرياضة تبقى من أكبرالاسباب في تحريك اهتمام الناس وإثارة فضولهم وحماسهم. ولكن الالعاب الاولمبية ليست حدثا رياضيا فحسب فيه الكسب والخسارة وفيه يتحدد مصير المتسابقين بعدد الميداليات من المعادن الثلاثة (ذهب وفضة وبرونز). فقد توفرت عدة عناصر جعلت من هذه الالعاب حدثا فرجويا بأتم معنى الكلمة. إن الجانب الفرجوي كان طاغيا في هذه الالعاب التي تابعها الملايين من الناس بشغف كبير وبحماس أكبر. فقد كانت المسابقات في مختلف الاختصاصات الرياضية وتلك ميزة الالعاب الاولمبية , كانت عبارة عن استعراض للمهارة ومناسبة للوقوف على قدرة الانسان على بلوغ درجات عليا من التحدي تذكرنا بزمن الابطال من الاغريق الذين بعثوا هذه الالعاب. ثقافة الجهد لقد كرست الالعاب الاولمبية ببيكين مرة أخرى ثقافة الجهد أو المجهود. لا شيء غير الجهد يمكن المتسابق من الفوز بأحد المعادن المذكورة وكانت مشاهدة الابطال يبذلون الجهد ويحاولون تجاوز أنفسهم والضغط على تلك الاجساد محاولين استنفاد كل ذرة من طاقتها عبارة عن مهرجان حقيقي. وليس هناك من مشهد أكثر إثارة وأكثر قدرة على تحريك حماسة الناس من ذلك الذي نرى فيه الابطال من مختلف البلدان والقارات والالوان والاعراق يتبارون شوطا بعد شوط أمام أعين الملايين من البشر وليس هناك من فيصل بينهم سوى الجهد والطاقة وقليل جدا من الحظ. فقد كانت هذه الالعاب حقا تترك الحظ جانبا. الغلبة في النهاية دائما للاقوى ولمن كان أكثر استعدادا لبذل الجهد إلى حد الاستنزاف. كانت الالعاب الفردية وخاصة منها اختصاصات على غرار السباحة وألعاب القوى قد وفرت فرصة للملايين من المشاهدين لمتابعة لقطات حية فنية و جميلة ونادرة. المسابقات في حد ذاتها مثيرة للفضول والحماس ولكن أيضا ردود أفعال المتسابقين سواء عند إعلان الفرح أو خيبة الامل. فقد كانت بعض اللقطات التي شاهدنا فيها بعض الابطال يذرفون الدمع أو يرقصون فرحا مؤثرة جاعلة من هذه الالعاب على ما تفرضه من تحد للدماغ والجسد وهي كذلك لان المسابقات الرياضية تستنزف الدماغ أيضا مع الجسد تجعل من هذه الالعاب تحافظ على شكلها الانساني بذلك الكم من المشاعر التي طغت عليها. فسيفساء من الالوان البشرية كانت الالعاب الاولمبية ببيكين فرصة شاهدنا فيها العالم أو ربما خلناه يتوحد لفترة ولو كانت قصيرة , أيام معدودة. كان المتبارون قادمين من الزوايا الاربع لكوكب الارض تقريبا. لم تكن النتائج حتما عادلة فشتان بين الصين والولايات المتحدة مثلا البلد الاول والثاني في الترتيب النهائي للالعاب اللذان حصدا أكبر عدد من الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية والبلدان الاخرى خاصة منها بلدان افريقيا والبلدان العربية. البلد الاول العربي مثلا في هذه الالعاب وهي تونس (بفوزها بميدالية ذهبية واحدة حققها السباح أسامة الملولي) حل في المرتبة الثانية والخمسين. لكن مع ذلك فإن هذه الالعاب لا تقصي أحدا. وقد كانت مختلف الاختصاصات خاصة في ألعاب القوى فرصة لمشاهدة فسيفسفاء من الالوان البشرية. الاعلام التي كانت ترفع في كل مرة والاناشيد الوطنية لم تكن لتعبأ بقيمة البلد وترتيبه على الخارطة السياسية بالعالم وقد شاهدنا أعلاما ترفع واستمعنا لاناشيد وطنية لبلدان صغيرة جدا وأحيانا أغلبنا لم يسمع بها من قبل أو هو لا يستطيع تحديد موقعها على الخارطة الجغرافية. الجميل في هذه الالعاب أنها تجعل المشاهد أمام جهاز تلفزيونه وقد خصصت مختلف القنوات حيزا كبيرا لهذه الالعاب ونقلت مختلف المسابقات بشكل مباشر تجعله مواطنا في هذا العالم. ليتحقق بذلك ولو لحين فقط حلم "كانط" بمواطنة في مجتمع عالمي موحد مثلا أو توقعات خبراء الاتصال الذين راهنوا على أن الكون سيتحول مع تطور تكنولوجيا وسائل الاتصال إلى قرية صغيرة. كان المشاهد يتابع في أغلب الحالات المتسابقين دون أن يكون طرفا في العملية أي دون أن يكون المتسابق بالضرورة يمثل بلده إلخ... وقد وقفنا على ذلك من خلال المعلقين الرياضيين مثلا من مختلف البلدان وهم يهتفون ويصيحون كلما تحقق رقما قياسيا جديدا في اختصاص ما من أي متسابق كان. ولعله من أبرز الامثلة الدالة على ذلك وهي عديدة في هذه الالعاب ما أثاره أحد المتسابقين من الجماييك الذي حطم على التوالي رقمين قياسيين في اختصاصين في سباق العدو ما أثاره من حماسة لدى المعلقين الرياضيين بمختلف الفضائيات العالمية. كان الكرنفال سيكون أجمل لو أن النتائج كانت أكثر عدالة كان بالطبع سيكون الكرنفال أجمل في أعيننا لو أن النتائج كانت أكثر عدالة من حيث توزيع الميداليات وكانت الفرجة ستكون أفضل لو أن المتسابقين العرب مثلا رفعوا من عدد الميداليات حيث كان العدد ضئيلا وربما بلا معنى وانتهى أغلب المتسابقين العرب بخيبة أمل لهم ولجمهورهم لكن ذلك لن يقلل من أهمية الحدث وخاصة من حيث ما يوفره من مساحة فرجوية كبيرة. فقد عاش المشاهدون على امتداد أيام الالعاب كرنفالا حقيقيا. كانت المسابقات عديدة. وكانت كل مسابقة تتطلب المرور بعدد من المراحل حتى بلوغ الادوار النهائية وكنا في كل مسابقة نستعرض ألوانا من البشر وتسابق وتلاحق مثيرا للفضول والحماس. استعراض الابدان كان مهرجانا لوحده. ولم تكن الكاميرات معنية برصد النتائج فقط وإنما أيضا برصد كامل التفاصيل بخصوص انفعالات الاجساد خلال المسابقات والمشاعر التي تطغى على المتسابقين اثر كل مسابقة ولم نكن لنفلت بالطبع في كل مرة من مفارقة الفرح والحزن. ولنعترف أن الالعاب الاولمبية حققت في هذه الدورة الجديدة تقدما هائلا من حيث الكفاءة الرياضية ولكن أيضا من حيث الحضور والملابس وهيئة المتسابقين عموما ولم تخلو من بعض المفاجآت خاصة ما له علاقة بحالات الغش (تناول المنشطات). كانت الالعاب الاولمبية بالصين مثيرة ومبهرة منذ حفل الافتتاح إلى نهاية الالعاب. وكان عامل الفرجة حاضرا بامتياز. لم نخرج من هذه الالعاب بالطبع بنتائج غير متوقعة ولم نكن ننتظر من هذا الحدث الرياضي بالاساس أن يغير وجه التاريخ ولكن الالعاب الاولمبية كانت عبارة عن قوس تم فتحه وإغلاقه بسرعة الوقت الذي سمح فيه للناس بأخذ أنفاسهم ليعودوا فيما بعد للملفات السياسية الساخنة وهذا في حد ذاته فرجة ولكن من نوع آخر.