عاشت القلق والحرمان... ممزّقة بين الحب والخوف والحنين باتت الأعمال التي تسرد السيرة الذاتية لشخصيات معروفة من فنانين وسياسيين وشخصيات تاريخية محط اهتمام العديد من المخرجين وكتاب السيناريو فبعد أم كلثوم وعبد الحليم وسعاد حسني والملك فاروق تعرض على القنوات العربية هذا الموسم ثلاثة أعمال مماثلة يتناول الأول شخصية الزعيم جمال عبد الناصر تحت عنوان "ناصر" فيما يسلط الثاني الضوء على الخليفة أبو جعفر المنصور ضمن عمل بعنوان " أبو جعفر المنصور من الدعوة إلى الدولة" .. أما المسلسل الثالث وهو محور اهتمامنا في هذا المقال فهو " أسمهان" الذي يغوص في عمق شخصية أيقونة الغناء ويكشف جوانب منها المعروف ومنها الخفي من حياتها الثرية بالأسرار والألغاز والمفاجآت فهذه الفنانة التي سحرت الجمهور بصوتها المتفرّد الذي لا يشبه أحدا حظيت بكثير من الاهتمام وكثير من اللغط وكثير من الشائعات وكثير من الغناء الجميل أيضا قبل أن ترحل وهي في ريعان الشباب في ظرف فسح المجال أمام التأويلات والتخمينات وظل لغزا دفينا مفاجأة رمضان 2008 يمكن اعتبار مسلسل " أسمهان" مفاجأة رمضان 2008 فهذا العمل الذي تمت عرقلة ظهوره لثلاث سنوات وأسال حبرا غزيرا قبل وأثناء وبعد تصويره واتخذ في شأنه قرار المنع من العرض في بعض المحطات العربية بأمر من ورثة أسمهان وتحديدا من فيصل الأطرش ابن فؤاد الأطرش الشقيق الأكبر لأسمهان يعد استثناء في مجال المسلسلات التي تعنى بالسيرة الذاتية للمشاهير ولو أن العمل لا تنطبق عليه تسمية السيرة الذاتية لأنه لم يتوقف عند حياة الشخصية محور العمل بل تعداها لرصد الملابسات والظروف السياسية والاجتماعية التي ميزت الفترة ما بين سنتي 1917 و1944 كما أنه لم يتم تقديم هذه الفنانة بنفس الصورة التي اعتاد الجمهور أن يراها في مجمل التي عنيت بالسيرة الذاتية لفنانين راحلين حيث أن كل تلك المسلسلات عرضت الجانب الإيجابي فقط من حياتهم وتغاضت عن الجانب المظلم منها بعكس مسلسل " أسمهان" الذي يطرح الجانبين الإيجابي والسلبي في حياتها ليقدمها بصورة لم يألفها المتفرّج ..صورة من المؤكد أنها ستثير جدلا واسع النطاق قد يفوق ما أثارته مسلسلات شبيهة سابقة لا سيما مسلسل "الملك فاروق"الذي عرض في رمضان الفائت . من أكثر المسلسلات مشاهدة 10 قنوات فضائية اختارت عرض مسلسل " أسمهان" من ضمنها "روتانا خليجية" وتلفزيون "الجديد" وتلفزيون الأردن والقناة المغربية الثانية ووفق الإحصائيات الأولية لأكثر المسلسلات متابعة يأتي " أسمهان" من بين أكثر الأعمال مشاهدة ويبدو أن الجدل الذي سبق عرض المسلسل وكذلك المشاكل التي رافقت عملية تصويره جعلت الجمهور يرقب عرضه بلهفة . وإلى حد الآن واستنادا إلى ما تم عرضه من حلقات يمكن القول أن هذا العمل يعد من أنجح الأعمال الدرامية العربية لهذا الموسم فهذا المسلسل وإلى جانب كونه يعيد أسمهان أو أمال الأطرش ( وهو اسمها الحقيقي) التي لا يعرفها أحد إلى دائرة الضوء ليكشف عن حياتها .. ألغازها وأسرارها فإنه يسلط الضوء على حياة المجتمعين السوري والمصري في فترة لم يسبق أن برّزت بشكل كاف وهي الفترة الممتدة كما أسلفنا سابقا بين عامي 1917 و1944 كما يقف المسلسل عند محطة هامة في حياة اسمهان تتعلق بجدلية العلاقة مع الموت والحرية ... الهاجسان اللذان رافقاها لسنوات .. فالمسلسل قدم اسمهان باحثة عن الحرية وامرأة لا تطيق القيود ولم تعرف الحب الحقيقي في حياتها رغم زواجها من ابن عمها الأمير حسن الأطرش وإنجابها منه ابنتهما كاميليا قدمها رافضة لهذه الزيجة التي أرغمت عليها لذلك عاشت طوال الوقت متمردة، قلقة راغبة في المحافظة على سيادتها وحريتها ومشتاقة إلى أجواء الغناء والتسجيل والفن والحرية التي حرمت منها بعد زواجها وحظيت بها بعد طلاق أصرّت عليه ونالته... كما قدمها شخصية مسكونة بهاجس الموت منذ أن تنبأ لها أحد الفلكيين بأنها ستموت في الماء .. وهو المصير الذي لاقته فعلا... وبين الخوف من الموت والبحث عن الحرية جالت كاميرا المخرج برشاقة في عالم حياتها الذي يخفي الكثير من الأسرار وكشفت الكثير مما كان مستورا ولا شك أن الأيام القادمة ستحمل في جعبتها الكثير من الكتابات وأيضا الاحتجاجات عن هذا المسلسل الذي خالف القاعدة ولم يتجاوز عن تقديم الجوانب السلبية والسيئة في حياة " أميرة الجبل" ولم يضع في حسابه الخشية من أن تثور ثائرة الورثة أو أن يصدم الجمهور بما سيكتشفه من سلبيات في شخصية أسمهان . والعمل يستعرض في جانب منه العلاقة التي كانت تجمع أسمهان بشقيقيها الأول فؤاد الذي كان ذا شخصية مركبة .. تتسم بالعنف وحب السيطرة .. ورفض فكرة أن تكون لأفراد عائلته ميولات فنية ... والشقيق الثاني هو الفنان الشهير فريد الأطرش الذي تداخلت حياته بحياة أسمهان والعمل يختزل كامل مراحل علاقتهما بدءا بقدومهما إلى مصر وتعرفهما على الوسط الفني وصولا إلى مراحل شهرته وإدخاله شقيقته إلى عالم الغناء يل وتقديم ألحان لها . صياغة درامية شديدة التميز وإخراج مبهر باعتراف النقاد الذين يرون في " أسمهان" مسلسلا يلفت الانتباه حقا... جاء العمل بمستوى يليق بفنانة لو لم يختطفها الموت في سن مبكرة لكانت أعطت للفن منعطفا آخر حيث ورد العمل وفق صياغة درامية غاية في التميز هي أقرب إلى الصياغة السينمائية منها إلى الدراما التلفزية تستند على حوار بسيط أحكم السيناريست نبيل المالح المسك بخيوطه رغم أن الخطاب الفني قدّم بلهجات مختلفة السورية واللبنانية والمصرية وبنفس درجة تميز الصياغة المكتوبة وردت الصياغة البصرية التي أمنها المخرج التونسي المتألق شوقي الماجري على هيئة صورة سينمائية ساحرة حولت النص الورقي الجاف إلى فسحة بصرية عظيمة الثراء... شديدة النقاء... موغلة في التفاصيل وعميقة التأثير... صورة تمتص فيها الموسيقى التصويرية الهادئة صخب بعض الأحداث الصادمة من جهة وتعكس شخصية أسمهان كما يقدمها المسلسل ممزقة بين الحب والخوف والحنين... صورة تبرهن على اهتمام المخرج شوقي الماجري بكادر كاميراته وتحكمه فيها بحرفية وفنية لافتتين . ولا شك أن هذا العمل سيكون حتما من النوع الذي سيحوز على تأثير السينما لجهة الرسوخ في الذاكرة. ولعل مما زاد في روعة هذا العمل هو أن عملية الكاستينغ كانت أكثر من موفّقة وعلى الرغم من خليط الجنسيات التي شاركت في العمل إلا أنه خرج في ثوب يرفل في التناغم وقد نجحت النجمة السورية سلاف فواخرجي في إتقان الدور تماما كما أبدع باقي الفنانين السوريين واللبنانيين والمصريين الذين شاركوا في العمل على غرار عابد فهد فراس ابراهيم «ورد الخال»أحمد شاكر ويوسف شعبان.