تابعت السجال المفتوح على أعمدة جريدة "الصباح" بين السيدين رشيد الذوادي وعامر قريعة والذي دار حول محجوب بن علي. وهو سجال يعكس إلى حد بعيد الصعوبات التي تعترض المهتم بتاريخ الزمن الحاضر، وحساسية هذا الضرب من الكتابة التاريخية التي لا تنفصل عن المكانات والمكافآت وتتشابك فيها العلاقات وشتى الاعتبارات الخفية والمعلنة وتمس بالشرعيات المختلفة. إلا أن ذلك لا يجب أن يؤدي إلى إيصاد الابواب أمام هذه الكتابات، حتى وإن كانت كتابات بيوغرافية رغم حساسية هذا المجال بالذات. إن هذه الملاحظة تعتبر مدخلا ضروريا يساعدنا على فهم السجال بين السيدين قريعة والذوادي حول شخصية محجوب بن علي. الاكيد أن المتساجلين جاءا من نفس الردهات، وتشربا نفس الثقافة السياسية، إلا أنهما ينحدران من جهازين مختلفين: الحرس الوطني والادارة المحلية والجهوية بالنسبة للسيد قريعة والحزب الاشتراكي الدستوري بالنسبة للسيد الذوادي حيث اشتغل فيما بين 1980 و1984 كاتبا عاما للجنة التنسيق الحزبي ببنزرت. وللرجلين تجربتان مختلفتان في الكتابة، إذ كتب السيد قريعة قبل تقاعده إلا أن أهم كتاباته صدرت في السنوات الاخيرة، حيث كتب عن تجربته في الادارة بدءا من كتابه "الصحراء بين الامس واليوم" (2004) وصولا إلى "مذكرات وال" (2007). أما السيد الذوادي فقد صدرت له عدة كتب متنوعة الموضوعات من أدب وتاريخ وتراجم ورحلة، مع الملاحظ أن ستة منها تهم مسقط رأسه بنزرت، كما نلاحظ أن بعض ما كتبه موجه للاطفال، خاصة وأنه بدأ حياته المهنية معلما. وربما الاهم من ذلك أن نذكر بعض عناوين ما كتبه: "بنزرت أرض البطولات" (بالاشتراك)، "أبطال وشهداء"، "عظماء بلادي"... ويبدو جليا من خلال تلك العناوين المنحى الذي يتخذه السيد رشيد الذوادي في كتابته للتاريخ فهو بطولات وأبطال وشهداء وعظماء ورواد وزعماء. أوكما قال حرفيا "والتاريخ لا يحتفظ إلا بالاعمال الشامخة وبالرجالات، الذين وقفوا ضد الزلات والمغالطات"، كما كتب حرفيا "فتاريخنا... تاريخ حافل بالبطولات، وفيه فكر واعتزاز بتراث الاجداد "(الصباح 12/10/08 ). والحقيقة أن هذا المنحى في الكتابة التاريخية كان مطلوبا في فترة معينة من تاريخ تونس المعاصرة، حيث كان التاريخ معينا للذاكرة، تستقي منه الشخصية الوطنية نسغها وتسترشد منه الهوية عناصرها. وهذه الزاوية نفسها قعد عندها السيد الذوادي لينظر إلى ما كتبه السيد قريعة في مذكراته التي تعرض ضمنها إلى شخصية محجوب بن علي. من المعروف أن محجوب بن علي كان أحد العناصر القيادية في المقاومة المسلحة فيما بين 1952 و1954 ثم أنه بعد الاستقلال كان أحد بناة الدولة الوطنية، بحكم موقعه في جهاز الحرس الوطني، وبقي غير بعيد عن دوائر التأثير حتى أنه عين على رأس الحزب الاشتراكي الدستوري في فترة وجيزة من خريف 1987. وأهمية هذا الدور لا يمكن أن تجعل المؤرخ يلجأ إلى طمس جانب من شخصية هذا الرجل، حتى وإن بدا ذلك الجانب للسيد رشيد الذوادي مجرد "افتراءات". والحقيقة أن محجوب بن علي مثله مثل شخصيات أخرى عديدة تستحق الدراسة والبحث من أجل فهم البناء الذي قام عليه هندسة ومواد، حيث يمكننا من خلالها تبين تأثير الفرد على المؤسسة. ومن هذه الزاوية فشهادة السيد عامر قريعة تعتبر أكثر من ضرورية وهي ذات قيمة عالية بالنسبة للمؤرخ المحترف. رغم أن السيد الذوادي حاول أن يستنقص منها بل ويدحضها، ولم يضف إليها جديدا كما لم يستطع النيل منها، حيث أشهر ضدها في نصه الاول "البعد الجهوي"، ناعتا محجوب بن علي ب"ابن بنزرت"، في حين لم ينعت أيا ممن سماهم "ثوار تونس الشجعان" باسم بلدته أومدينته من "أمثال: خليفة بن عسكر (وهوليس تونسيا)، ومحمد الدغباجي، ومحمد العربي زروق، ومحمد علي الحامي، والحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف...". ثم يصف السيد قريعة بابن الساحل ملاحظا له "ألاّ يقضي هذا النقاش على عدم احترامنا للدور العظيم الذي قام به الساحل في أثناء الحركة التحريرية وقد كتبت عن أبنائه ورجالاته العديد من الدراسات" (الصباح، 12/10/08). وبهذا يرتد النقاش إلى المربع المحلي، فتصبح الكتابة عن شخص مسا من بلدته أوعشيرته وذويه، ويرتفع التاريخ إلى منزلة المقدس. لقد بدا السيد قريعة في هذا السجال متماسكا إذ اكتفى بدوره كشاهد على العصر، ولم يدع أنه يكتب التاريخ إذ توجه إلى السيد الذوادي قائلا: "أعترف لك ولكل الناس بأني لست مؤرخا ولم أدع ذلك ولن أدعي ذلك في المستقبل" (الصباح 19/10/08)، وهوما يعني أنه يفرق جيدا بين التاريخ الذي يكتبه المؤرخون والشهادة التاريخية التي تستند إلى الذاكرة والتجربة والتي بإمكان الفاعلين أن يسجلوها. إلا أن السيد الذوادي بدا وكأنه لا يفرق بين ذينك النوعين من الكتابة فأجهد نفسه ليجر الرجل إلى مصاف المؤرخين المهنيين، إذ توجه إليه قائلا إنكم "لم تستندوا إلى منهج واضح، ولم تتجنّبوا العجلة والتحيز"، وطفق يحاكمه بما قاله ابن خلدون وغيره. وهوما يعني أنه لا يفرق بين التاريخ والشهادة، ولم ينتبه إلى أن ما كتبه السيد قريعة مادة سيشتغل عليها المؤرخون وليست تاريخا في حد ذاته حتى تخضع للمنهج والموضوعية. ومع ذلك فإن السيد الذوادي نفسه لم يلتزم بما دعا له من منهج، حيث اعتبر إثارة المستوى التعليمي لمحجوب بن علي مجرد اتهامات ومغالطات، وكذلك نفس الشيء بالنسبة لما قام به في القرجاني حسب شهادة السيد قريعة الذي عمل معه في نفس السلك. وكأن ما يشفع لمحجوب بن علي هوأنه -حسب تعبير السيد الذوادي- كان "من خيرة الصفوة التي ناضلت من أجل استقلال تونس"، أوأنه "نام على الحصى وتوسد الحجر في ليالي الشتاء الباردة في (جبل الاشكل الاشم)" (الصباح، 26/10/08). لكن هل ترى السيد الذوادي يمكن أن يكتب بمثل هذا عن مقاومين آخرين أمثال الازهر الشرايطي والطاهر الاسود والساسي الاسود؟ أم أن هؤلاء لا يحق لهم ذلك لانهم وقفوا ضد بورقيبة؟ نعم إن تاريخ المقاومين لم يقف عند "نومهم على الحصى"، وإنما استمرت حياتهم بعد ذلك وكانت لهم مواقف وأفعال ترفعهم أوتدينهم حسب الموقف منهم، وهذا ينطبق على الازهر الشرايطي كما ينطبق على محجوب بن علي. وفي كل الحالات فإن المؤرخ لا يمكنه أن يمر مرور الكرام على ما قام به الرجل في إطار "لجان الرعاية" التي كانت تتتبع اليوسفيين خارج إطار القانون في النصف الاول من عام 1956 (1)، ولا يمكن للمؤرخ أن يصمت على الشهادات حول التعذيب الذي تعرض له هؤلاء في القرجاني، وإلا فالكتابة التاريخية تستحيل إلى مجرد تبييض لصفحات البعض حتى يبدو التاريخ مجيدا والماضي تليدا وخاليا من "الافتراءات" أو"المغالطات". إن الكتابة التاريخية تستهدف الموضوعية والنزاهة، وللوصول إلى كتابة موضوعية لا بد أن تتوفر للمؤرخ جميع الشهادات مهما كانت مواقع أصحابها ومواقفهم. وهنا فإن ما كتبه السيد عامر قريعة يسهم في تبيان الحقيقة، وفي الاحاطة بالاحداث والاشخاص، ولذلك فهو جدير بالاشادة والتنويه. (×) مؤرخ جامعي (1) انظر في هذا الاطار : علي المعاوي، ذكريات وخواطر، منشورات المعهد الاعلى لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2007، ص 654-655؛ وانظر كذلك موقف محجوب بن علي خلال محاكمة المقاوم الطيب الزلاق في : عميرة علية الصغير، "الطيب الزلاق: مسار مقاوم"، مجلة روافد، ع 10، 2005، ص 303.