تحلّ الذكرى الواحدة والعشرون لتحول السابع من نوفمبر 1987 وتونس تحتلّ اقتصاديا المرتبة الاولى مغاربيا والرابعة عربيا، بل تتقدم في هذا المجال بعض البلدان الاوروبية مثل البرتغال وإيطاليا، رغم التأزّم العالمي الذي طال أخيرا معظم أنحاء المعمورة، وفق التقرير الاخير لمنتدى دافوس 2008 /2009. كما تحلّ هذه الذكرى والبلاد تعيش مرحلة طريفة من التجربة الديمقراطية، في إطار سلطة تشريعية متركبة من غرفتين برلمانيتين، وضمن مشاركة واسعة للعنصر النسائي المعزّز بترسانة من الاجراءات والتشريعات، وفي كنف تعدّدية فكرية ضخمة، قوامها تسعة أحزاب ونحو عشرة آلاف من المنظمات والجمعيات، لا تتردد في التعبير عن وجهات نظرها ورؤاها في وسائل الاعلام وفي صحفها الناطقة باسمها، وفي رحاب الغرفتين النيابيتين المذكورتين، بل تعيش البلاد في ظلّ سلطة قابلة للمشاركة في صنع القرار، ولا ترفض المنافسة على الرئاسة، وتخضع لنتائج صناديق الاقتراع، بعيدا عن الاستبداد بالرأي وعهد الرئاسة مدى الحياة. ويفهم من خلال هذا التقدّم التنموي، وهذا الانتعاش السياسي الذي ما زال البعض يعتبره نسبيا، أن قيادة التحوّل استثمرت ما وضعته من تشريعات لتحقيق هذه الخطوة الباعثة على التفاؤل بالمستقبل. ونظرا للعلاقة الحميمة بين قطاعي التنمية والسياسة من جهة، والخصوصية الثقافية من جهة ثانية، في إرساء مناخ فكري ملائم ومساند، نتساءل عن نصيب هذه الخصوصية من تشريعات التحوّل، خلال العقدين الاخيرين؟ كما نتساءل إلى أي حدّ ساهمت هذه التشريعات في تجسيم شعار المصالحة مع الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية؟ يلاحظ أن القيادة الجديدة بادرت منذ مؤتمر" الانقاذ " للحزب الحاكم الذي ألتأم بعد أيام قليلة من تاريخ التحوّل إلى إثارة موضوع الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية للشعب التونسي ووضعتهما في صدارة اهتماماتها إذ قال الرئيس زين العابدين بن علي في افتتاح المؤتمر : " إن الثقافة هي الاساس في تكوين شخصية الانسان في شمولها ومختلف أبعادها، فهي المرجع الفكري والنفسي الذي تتغذى منه شخصية الفرد وتنصهر فيه الهوية الجماعية للامة، لذلك فهي شاملة أو لا تكون، إذ تعتمد تراث تونس وذاكرتها الوطنية وتنفتح أمام الابداع والخلق وهي متجدّدة بقدر ما هي محافظة على أصالتها". وبعد أن أقرّ الرئيس في هذه الفقرة الترابط والتلازم بين الثقافة والهوية وعلاقتهما الحميمية والمنطقية بالتراث والذاكرة، تعرّض في نفس الخطاب إلى دور الثقافة في تحديد الهوية الوطنية، رافعا ما كان خيّم على بعض النفوس من وهم وحيرة بخصوص هذه المسألة في العهد السابق، قائلا: " لقد اضطلعت الثقافة في تونس بدور رائد سواء أثناء فترة النضال التحريري، أو في مرحلة بناء الدولة، وتأكد هذا الدور بتركيز مقوّمات الشخصية التونسية العربية الاسلامية وما يؤصّلها في تاريخها". وتوالت بعد هذا الخطاب التاريخي المواقف والتشريعات الرامية إلى تخليص الخصوصية الثقافية من رواسب التغريب والمسخ، فصدر في هذا الصدد القانون عدد 64 لسنة 1993 الذي نصّ على: "اعتماد اللغة العربية وحدها في النصوص القانونية والترتيبية، واعتبار النص العربي المنشور في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية هو المرجع القانوني الوحيد المعتمد". كما تمّ إقرار التشريع التربوي القاضي "بتدريس جميع المواد العلمية باللغة العربية على امتداد السنوات التسع من مرحلة التعليم الاساسي ابتداء من سبتمبر 1995 " وقد جسّم هذا التشريع استجابة التحول لارادة الشعب، في أن ينصهر النظام التربوي والثقافي في خصوصية الهوية الوطنية ويتجذّر في الواقع التونسي المعيش، كما وضع هذا التشريع حدا لاقصاء اللغة الامّ عن العلوم في هذه المرحلة الحسّاسة من بناء شخصية المواطن وتكوين حسّه الوطني وانتمائه الحضاري، مع ما يترتّب عن تلقي الاجيال الناشئة للمواد العلمية والتقنية بلغة الضادّ من تعميق انغراسها في جذورها وأصالتها وحبها لبلادها. ولعلّ أبرز ما نذكره بكل إعتزاز ونحن نتحدث عن مقومات الذاتية التونسية "مبادرة زين العابدين بن علي أثناء زيارته الاولى لفرنسا كرئيس دولة وهو يرتدي اللباس التقليدي إلقاء خطابه الرسمي بقصر الايليزي باللغة العربية". وقد كان هذا الخطاب حدثا لافتا في تاريخ العلاقات التونسية مع فرنسا، لانه قطع مع العادة السلبية التي كانت تكرّس في الماضي التبعية اللغوية للمستعمر القديم، ورأى القاصي والداني أن الرئيس التونسي الجديد جاء يمثّل في هذه الزيارة شعبه بخصوصيته اللغوية والثقافية وحتى خصوصيته في اللباس. وقد كانت هذه المبادرة مؤشرا على أن إنخراط تونس في المنظمة الفرنكوفونية لا يعني بأي حال التفريط في ذاتيتها وعروبتها وانتمائها الحضاري العريق. ثم استمرت قيادة التحوّل تضع التشريعات اللازمة لترسيخ هذه الخصوصية اللغوية والثقافية والروحية التي تميّز بها التونسي منذ أقدم العصور، إذ نصّ التشريع المتعلّق بتنظيم الاحزاب السياسية والصادر في ماي 1988 على " أن الحزب السياسي يعمل في نطاق الشرعية الدستورية والقانونية، وعليه أن يحترم ويدافع عن الهوية العربية الاسلامية". وليس من باب الصدفة أن تكون جميع جرائد الاحزاب السياسية ناطقة أساسا باللغة العربية، ومنسجمة تماما مع خصوصية الشعب التونسي الثقافية والروحية. ويعتبر قيام قيادة التحوّل بإحداث وزارة مكلّفة بشؤون الدين الاسلامي وهياكله، وإعادة بعث جامعة الزيتونة، وإقامة جامع عملاق " جامع العابدين " في ضاحية قرطاج لاوّل مرّة منذ الاستقلال، مؤشرا آخر بالغ الدلالة على حرص العهد الجديد على تجسيم شعار المصالحة مع الهوية العربية الاسلامية، وقد تأكّد ذلك مجدّدا بإحداث إذاعة الزيتونة في شهر سبتمبر 2007. أمّا الانجاز التاريخي الاكبر الذي حسم مسألة الخصوصية اللغوية والثقافية وتجاوز تردد العهد السابق في هذا المجال، فهو " التشريع الرائد الصادر بتاريخ 29 أكتوبر 1999 الملزم باستعمال اللغة العربية وحدها وتحجير استعمال اللغة الاجنبية بالنسبة إلى جميع الوزارات والمؤسسات العمومية والبلديات". وقد جاء هذا التشريع متوّجا لما سبقه من تشريعات في هذا المجال، وقد اعتبر اصلاحا تقدّميا ثوريا طالما طالب به الوطنيون قبل الاستقلال وبعده، لانّه قطع مع التبعية الثقافية الغربية اللاّتينية المسيحية المفروضة على البلاد منذ 1881. وقد أثارت جملة هذه التشريعات المدعّمة للخصوصية اللغوية والثقافية والروحية في السنوات الاخيرة غضب الفرنكوفونيين المتعصّبين للغة الفرنسية، وأثارت ضجة كبيرة لدى العنصريين الفرنسيين وخاصة عند إقرار التشريع الاخير المحجّر لاستعمال اللغة الاجنبية في الادارة التونسية وتعاملها مع المواطنين، وكانت مجلّة جون أفريك Jeune Afrique الصادرة في 18/01/2000 المروّجين لهذه الحملة المسعورة ضدّ هذا التشريع. ومن المنعش أن تتصدّى جميع وسائل الاعلام التونسية لهذه الحملة إلى جانب تصدّي المؤسسات الدستورية لها وفي مقدّمتها مجلس النوّاب، فضلا عن تصدي كافة مكوّنات المجتمع المدني من أحزاب سياسية ومنظمات وجمعيات، مؤكّدين بالاجماع على أن قرار التعريب وحماية الخصوصية الثقافية هو قرار سيادي حكيم ومنطقي وواجب وطني استجاب لمطلب جماهيري شعبي لا رجعة فيه. هذا عرض لجانب من التشريعات جاءت مساندة ومجذّرة للخصوصية اللغوية والثقافية والروحية للتونسيين جميعا، غير أن جانبا من القطاع الخاص مازال يتلكأ بدون أي مبرّر مقنع في تطبيق هذه التشريعات، وقد تعددت تبعا لذلك النداءات والكتابات الموجهة إلى البلديات والسلط المعنية وحتى إلى رئيس الجمهورية، مطالبة بالتدخل الحازم لفرض الامتثال لهذه التشريعات.، التي أعادت لخصوصيتنا اللغوية والثقافية والروحية اعتبارها ووزنها. وقد صدرت هذه النداءات والكتابات ومازالت تصدر عن عدة فئات اجتماعية مثل البرلمان والاحزاب السياسية والنخب الثقافية، والاعلاميين في الصحف والمجلات التونسية، ويشار هنا على سبيل المثال إلى أن كاتبين وشاعرين معروفين وطنيا وعربيا بنضالهما الاعلامي والثقافي، قد أثارا هذا الاسبوع وفي نفس اليوم "الخميس 23 أكتوبر 2008 استمرار هيمنة اللغة الفرنسية في تونس وخطرها على خصوصياتنا اللغوية والثقافية ومد اشعاعنا إلى الخارج، واعتبرا ذلك قضية اجتماعية وسياسية وحضارية مزمنة، تستفز كل التونسيين الغيورين على استقلال البلاد وسيادتها، ولاسيما بعض هذه السنوات الطوال من رحيل الاستعمار، وبعد أكثر من عشرين سنة على وعد السابع من نوفمبر بالمصالحة مع هويتنا العربية. مع العلم أن كل واحد من الكاتبين وهما الشاذلي زوكار وآمال موسى ينتمي إلى جيل وجنس مختلف، وقد عبر كل منهما عن رأيه في جريدة مستقلة عن الاخرى، بدون سابق اتفاق أو تنسيق. وقد تعرض الاول في الملحق الثقافي لجريدة "الحرية" إلى مقاومة التونسيين قبل الاستقلال وبعده لمظاهر مسخ الذاتية اللغوية والثقافية التونسية، واتخذ الاديب الكبير الراحل نورالدين بن محمود نموذجا لذلك، الذي اعتبر المكرّسين للفرنسة رجعيين وعاقّين لوطنهم ومتآمرين عليه، وعلق زوكار على هؤلاء بحسرة ومرارة قائلا: "وأقول لروح نور الدين بن محمود ما أشبه الليلة بالبارحة". أما آمال موسى فقد رأت في ركن قهوة الخميس لجريدة "الصباح" أن مسار الترجمة في تونس يبقى مشلولا وعاجزا عن مدّ اشعاعها إلى آفاق أرحب، إذا بقينا أسرى الترجمة من الفرنسية وإليها، ودعت بالمناسبة إلى الخروج من هذا القمقم والتحرر من سجنه قائلة: "قد حان الوقت كي نتجاوز ظاهرة تغليب اللغة الفرنسية، فتونس اليوم هي تونس الانفتاح الثقافي الكوني والانساني".