ليس من السهل أن تنجذب العين ويتماهى الفكر مع عمل إبداعي، وليس من اليسير أن تعرض على ذاتك الانقياد صوب إنتاج سينمائي فتشاهده مرّة وأخرى وثالثة، ولكن كل هذه الحركات النفسية الواعية قد فرضها منطق الجزيري وأنا أتابع شريطه ثلاثون فهذا المرجع السينمائي الذي ينضاف إلى رصيد أحد مكوني المسرح الجديد قد جعلني أدمن المشاهدة وأسعى إلى تقصي بعض من المسكوت عنه. أجل المسكوت عنه ليس بمعنى المحظور ولكن ما أراد الجزيري أن يفهمه المشاهد من خلال ايمائيات المشهد. فشريط ثلاثون استطاع أن يؤسس حراكا محببا وأن يدخل حيوية على المعيش السينمائي في مستويي الشكل والمضمون، لأن الفاضل تمكن بطريقته الصامتة الصائتة أن يشن حربا لطيفة على أقلامنا ويجعلها تخطّ ما تشعر به عقولنا ونحن نسير في دروب «ثلاثون» أقول نسير لأننا فعلا تدرجنا في تلك الحقبة الزمنية من خلال الدراسة أولا ثم حين ارتدنا بعض تلك الأماكن أو الديكورات المتحركة التي اشتغل عليها الجزيري وزادت قناعتنا رسوخا بأهمية المسار التاريخي للثلاثيانات حين قدمه المخرج في تمش سينمائي يغيّب المسطّح ويدعو إلى سبر أغوار بنية العمق على حد تعبير الأستاذ توفيق بكار الذي رأيناه منتشيا ل«ثلاثون» كما أننا لا نغيّب -ونحن نتحدث عن هذه الجوانب المرافقة للعمل- الدراسة الموضوعية والمتأتيّة التي أنجزها الجزيري حول ملابس تلك الفترة، اللباس بكل جزئياته من الجبّة والبرنوس، والشاشية والعرّاقية إضافة إلى المنتان.. كلها تسارعت رموزا وحالات اجتماعية ولكنها أيضا جمالية جاءت لتعاضد تلك المرحلة، هذا اللفيف من المقوّمات التاريخية سربلها الجزيري بأطروحات متنافية، متنافرة ولكنها في النهاية متناغمة لأنها تتولّد من نقطة فارقة ونعني بها التقاطع في مستوى البناء الحدثي الذي استقام وفق ثلاث ركائز: التاريخ، الفن الحكائي من خلال شخصية الراوي وإلى هذين العنصرين تنضاف اللغة ولئن اتفق مع الفاضل في كون العمل هو تجسيد للحظة تاريخية هامة ولا يمكن أن نضرب عليها صفحا لما يطنته من أحداث وشخصيات تركت بصماتها على حياتنا فجعلتنا نعاين مراجع ولا أقول ذوات مثل: الحداد، الحامي، الشابي، الدوعاجي وغيرهم فإن الرئيسي كذلك أن صاحب ثلاثون لم يعتمد الخطية التاريخية أو السرد الحدثي المملّ القائم بالأساس على السيرة الذاتية بل إنه تجاوز ذلك ليحبك نسيجا من الأفكار تستنطق ذلك الزمن وهنا لعلّني لا أتفق مع المخرج الذي يرى «ثلاثون» مجرّد تاريخ لقد تجاوز بنا الشريط هذا المحك الكرونولوجي ودلف إلى حياض النقدي لتلك الفترة برمّتها... عبر تقنية ذكيّة جدا وهي الإضاءة. شعرت بهذا وأنا أرصد الحوار داخل الحمام أو الجدل في المكتبة، إنك ترى الكاميرا تنتقل هنا وهناك بين الظلمة والضياء فتظفر إن أردت بكثير من الرمزية تطفح أمامك من خلال منجز جمالي صامت. بقي أن نشير إلى قيمة اللغة التي تراوحت بين المباشر مرّة ونقيضه مرّة أخرى هي لغة... لهجة... منطوق محبوك بطريقة تراهن على المشاهد وتستحثّ كل طاقاته ليتابع... ليتناغم وكل هذا حتى لا يرتبك أمام عمل مربك.. عمل يرجّ.. عمل فيه تعاضد كبير بين الجزيري وصاحبة مراتيح. والبعد الخامس عروسية النالوتي التي تواطأت مع عمق الكتابة ورسمت مسيرة طويلة من الالتزام، عروسية لم تسقط في المتداول ولم يجرفها تيّار السهولة والبساطة بل إنها كانت رفيقة درب الفاضل لفترة طويلة هي ثلاثون. قراءة نبيل الباسطي