أعرب الوزير الاول السابق، محمد مزالي، عن استعداده للمحاكمة على فترة رئاسته للوزراء أوائل ثمانينات القرن المنقضي.. وقال مزالي ردا على أحد الجامعيين التونسيين على منبر مؤسسة التميمي للبحث والتوثيق والمعلومات، "نعم أريد تحمل المسؤولية.. وأنا مستعدّ للمحاكمة في تونس الان بالذات"، قبل أن يضيف بكثير من الوضوح: "إنني أتحمل مسؤوليتي في قضية أحداث الخبز (العام 1984)، وفي الاخطاء التي ارتكبتها". واعترف الوزير الاول بخطئه في عدم الاستقالة، قائلا: "أعتقد أنه كان علي أن أستقيل في فترة من الفترات من بعض المناصب.. لقد أخطأت في هذا التردد.. لكن لم تكن لديّ الشجاعة الكافية.. لقد استقال أحمد المستيري (أحد مؤسسي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وزعيمها، ووزير الدفاع على عهد الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة)، لكنني لم أكن أملك هذه الشجاعة".. وبقدر ما يبتهج المرء بمثل هذه التصريحات التي جاءت بعد نحو عشرين عاما أو تزيد، على ابتعاد السيد مزالي عن دائرة المسئولية السياسية في الحكم التونسي، بقدر ما يتساءل حول جدواها بعد هذه المدة الطويلة نسبيا.. إن قيمة الشهادة، ليس فقط في مدلولها وصراحتها وجرأتها، وإنما أيضا في توقيتها، إذ ما الذي يفيد اليوم بعد أكثر من عشرين عاما أن يعترف مسؤول حكومي سابق عن مسؤوليته في بعض الاحداث الاجتماعية والسياسية، خصوصا إذا ما كانت هذه الاحداث، مرفوقة بتطورات ما تزال التساؤلات مطروحة بشأنها إلى اليوم في أوساط المؤرخين.. ولا شك أن الحوار الذي شهدته أروقة مؤسسة التميمي، التي قد تكون الوحيدة التي تضطلع بدور "استنطاق" اللاعبين الاساسيين في السياسة التونسية فيما مضى، لئن كان مهما من جهة تسجيل هذه "الاعترافات" التي لم يسبق لبعض المسؤولين أن أدلوا بها إلا على منبرها، فإنها في المقابل ومن حيث لا ترغب في ذلك بدت وكأنها "حاضنة" لمن يريدون أن "يبيّضوا" تاريخهم ببعض الصراحة التي تخفي حقائق مرّة ربما حان الوقت لرفع الستار عنها بشكل جدي وجادّ في آن معا، لان تاريخ البلاد ليس ملكا لاحد خصوصا إذا ما اضطلع بمسؤولية سياسية، يفترض أن يدلي بشهادته من دون أية "قفازات"، أو محاولة "التصرف" في المادة التاريخية على النحو الذي يبقي من خلالها على تلك "الكاريزما" السياسية والذاتية التي اكتسبها، والتي يخشى على خدشها أو المساس منها من خلال اعتماد الصراحة اللازمة في مثل هذه الموضوعات.. لقد استمعت شخصيا إلى عديد المسؤولين السابقين، على غرار السادة الطاهر بلخوجة وأحمد بن صالح ومحمد الصياح وغيرهم، وبقدر ما يشكل هذا التقليد الجديد، نهاية لتاريخ يدور حول حذاء الزعيم ونظاراته وبعض ملابسه وعكازه المشهور (ما يعرف بالباقيتا)، بقدر ما خرجت بسؤال لطالما أرقني، وهو لماذا يصمت هؤلاء طوال عقود، وما الذي يجعل سياسيا تقلد مناصب حكومية، ينتقي صفحات من تاريخه وتاريخ شعبه، ليقدّم لنا تاريخا أشبه بحلقات من البطولة المزعومة و"الكاريزما المركبة" التي سرعان ما تتهاوى بمجرد مقارعتها بحجج وبراهين من خارج الدائرة التي يتحرك فيها هذا أو ذاك.. إن الكاريزما الحقيقية، هي تلك التي تبنى على قدر من الصراحة والشفافية والوضوح والجرأة فيما يتعلق بالتاريخ السياسي، سواء الوطني منه أو الشخصي، لان لا شيء يعلو على التاريخ حتى وإن تأخر الاعتراف.. ألم يقل أحد المؤرخين: التاريخ هو المحكمة التي يلجأ إليها المتهم والمدعي معا، وعلى جدرانها تتكسر حلقات التضخيم والمزايدة أو الاخفاء أو السكوت على مناطق مهمة في جغرافيا السياسة.. لا شك أن مؤسسة التميمي التي خلقت هذا التقليد الهام مع المسؤولين السابقين في الحكم، بما جعلها تقوم بعملية نبش للتاريخ التونسي، عبر تقليب صفحاته المختلفة، النقابية منها والسياسية والثقافية والفكرية، لا تتحمل مسؤولية بعض التلاعب بوقائع تاريخ البلاد، الذي يحرص البعض على ممارسته خصوصا في ضوء عدم توفر شهادات أخرى يمكن أن "تكذّب" بعض الروايات والتفاصيل والحيثيات..