من الان، يمكن للمرء أن يسجّل بلا أدنى شك، أن مشهد رشق الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش بحذاء الصحفي العراقي، منتظر الزيدي خلال مؤتمر صحفي عقد الاحد، سيكون الحدث الابرز لسنة 2008.. فلا الاوضاع المأساوية في غزة، ولا أحداث مومباي في الهند، ولا التطورات اللافتة في باكستان إثر مقتل بناظير بوتو، أو التفجيرات اليومية التي يشهدها العراق، ولا الازمة المالية العالمية، يمكن أن تكون من حيث التصنيف قبل ذلك المشهد غير المسبوق في تاريخ المؤتمرات الصحفية في العالم.. ليس بوسع العالم أن ينسى ذلك الحذاء "ذي الرقم 44"، وهو يتطاير باتجاه رأس الرئيس الامريكي، بينما كان يجيب على أسئلة الصحفيين حول الاتفاقية الامنية بين الحكومة العراقية وواشنطن.. إذ سيبقى "حذاء منتظر الزيدي" عنوانا بارزا لكمّ هائل من الغبن والامتعاض والحقد الكبير، الذي كرسته سياسات البيت الابيض طوال نحو ثماني سنوات كاملة، هي عمر الرئيس بوش في الحكم، ومعنى ذلك أن فترة حكم الرئيس الامريكي، ترافقت مع مرحلة عصيبة في تاريخ العراقيين ما تزال مستمرة إلى الان، وربما ستطول لسنوات أخرى عديدة.. قد يكون ما أتاه الصحفي العراقي، مراسل قناة "البغدادية" التي تبث من مصر، "عملا" خارج دائرة الاخلاقيات الصحفية والمهنية التي يفترض أن يتحلى بها الصحفي أثناء أداء مهمته الاعلامية، حيث ينبغي عليه أن يتسلح بالحياد، سيما وأن الرشق بالحذاء قد ترافق مع استخدامات لغوية شديدة اللهجة من خلال وصف الرئيس الامريكي ب "الكلب"، وهو أشدّ الاوصاف وأقذعها التي يمكن أن توجه إلى أي بشر، فما بالك إذا كان رئيس دولة، بل رئيس أكبر دولة في العالم.. وقد تكون الطريقة التي عبّر بها الصحفي العراقي عن ذلك الحجم من الاحباط والشعور بالظلم والقهر، فضلا عن أحاسيس الغبن التي تنتاب العراقيين، طريقة مثيرة وربما كانت مقذعة وغير مستساغة بأي شكل من الاشكال.. غير أن استحضار ما حصل في العراق من تحولات نحو الاسوإ خلال السنوات الثماني الماضية، وانقلاب صورتها بشكل كلي، من دولة تتقدم الشعوب العربية، إلى دولة باتت في ذيل ترتيب الدول العربية، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعلميا، وحالة الاذلال الكبيرة التي لحقت العراق وشعبه وتاريخه وعلماءه، كل ذلك قد يوجد البعض من المبررات لهذا الصحفي الذي أراد أن يكون حذاءه رمزا لموقف شعبي عراقي محتقن أبرز علاماته، قتل مئات الالاف من شعبه، وتهجير ما يقرب من ربعه في الداخل والخارج، وجلب الحرب الاهلية إليه، و"حقنه" بفيروس التقسيمات الطائفية البغيضة، وجعله بلدا الاكثر فساداً في العالم وفق التقارير الدولية المتخصصة.. وجاءت المظاهرات التي شهدتها المحافظات العراقية أمس وأول أمس، لكي تؤكد دعمها لهذا الصحفي الذي بات يوصف ب"الشجاع" و"البطل"، بل والمعبّر عن وجهة نظر الشعب العراقي.. والحقيقة، أن السياسات الامريكية في المنطقة، وبخاصة في العراق، لم تترك سوى الكثير من "الدمار الشامل" الذي امتدّ ليشمل الوضع الاجتماعي والانساني والاقتصادي والسياسي والثقافي برمته في العراق، ولعلّ ما زاد الطين بلّة، تلك التصريحات الصادرة في غضون اليومين الماضيين عن مسؤولين أمريكيين، بشأن "المعلومات الخاطئة" عن أسلحة الدمار الشامل العراقية التي بررت الحرب على العراق واحتلاله وعزل رئيسه ثم إعدامه لاحقا.. تصريحات لا شك أنها عمّقت الجرح العراقي النازف أصلا، وقد تكون من بين الدوافع الاساسية التي جعلت الصحفي العراقي لا يتردد في رشق الرئيس الامريكي ب "الجزمة القديمة"، وفق التعبير المصري ذي المدلول الطريف.. صورة تختزل في الواقع، مشهدا عراقيا ما يزال مفتوحا على جميع الاحتمالات، خصوصا السيئة منها، على عكس ما تصرّح به الادارة الامريكية والحكومة العراقية على حدّ السواء، من توفر الامن واستئناف العراق لسالف حياته، بل إعلانه تدشين مرحلة سياسية جديدة في العراق، عنوانها الابرز: الحرية والديمقراطية، كنقيض لدكتاتورية الحكم السابق.. بالامس القريب استخدمت الطماطم والبيض لرشق رؤساء وزراء من أوروبا، احتجاجا على بعض المواقف السياسية غير الشعبية، وطارت كراسي ومقاعد بعض المجالس البرلمانية إثر خلافات بين نواب بعض الاحزاب في عواصم وبلدان عديدة، لكن لم يسبق أن سجل الحذاء حضوره في مشاهد سياسية أو إعلامية مثل المؤتمر الصحفي الاخير لبوش والمالكي، ما يجعل حذاء منتظر الزيدي، الاكثر شهرة بل الاشهر بين أحذية الصحفيين، حتى وإن لبسوا أثمنها وأرفعها سعرا.. على أن دخول الحذاء على خط الاستخدامات والوسائل المناهضة للسياسة الامريكية في العراق، ليس بدعة جديدة في العراق المعروفة بتقاليدها التاريخية العريقة في استعمال الحذاء للتعبير عن موقف محدد.. فقد استخدم العراقيون هذه الكلمة (الحذاء)، للتعبير عن معان مختلفة وفقا لوضع الحذاء.. فصعود فردة على أخرى لها معناها، وانقلاب الحذاء يشير إلى معنى مختلف، ولباس العراقي لحذاء كبير (من النوع الذي رماه الصحفي منتظر الزيدي على الرئيس بوش) معنى آخر، باعتباره يؤشر إلى نوايا الضرب مثلما يشير الشاعر العراقي قائلا: "اضرب بشسع نعلك تيجانا وأنظمة" (الشسع هنا هو أدنى ما في الحذاء).. من المؤكد أن رشق الرئيس الامريكي بالحذاء، علامة دالة على بلوغ السياسة الامريكية مستوى من الوهن لم تبلغه في تاريخها، ومؤشر على انكشاف علاقة مهزوزة بين الرئيس جورج بوش وقسم واسع من الشعوب والامم في العالم، لكنه يحمل كذلك إشارة إلى خلفه، باراك أوباما، عنوانها الاساسي، أن حقبة بوش انتهت، وينبغي على القيادة الامريكيةالجديدة أن تتخذ لها أسلوبا جديدا في معالجة القضايا العربية، قبل أن تكون نهايتها، لعنة بحذاء ربما كانت أقسى على الرئيس بوش من طلقة نارية أو عبوة ناسفة، فليس ثمة أكثر مهانة لرئيس دولة من أن يكون مرشوقا في نهاية مشواره السياسي، بحذاء لا يسوى بضعة دولارات أمريكية..