هل يصح وسط الآلام والأحزان وحرارة الدماء والدموع والرصاص الذائب على رؤوس الأبرياء.. أن يتكلم الانسان عن ملابسات السياسة بين الفرقاء والفصائل والأنظمة والحكام والمجتمع الدولي، وغير ذلك من شنشنة حقوق الانسان.. وعن قرارات مجلس الأمن وحيثيات القمم العربية والاسلامية.. وعن حماس وتهدئة.. وعن مقاومة وإرهاب.. وعن مفاوضات وسلام. .. ودول الحروب الأوروبية الكبرى الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا، هي التي خلقت فكرة العنصرية الصهيونية المسيحية المتعصبة في رأسها أولا، قبل أن تنبتها كياناً غاصباً في أرض فلسطين والشرق الاسلامي عامة.. بعد أن جرّبت فكرة الصليبية الحاقدة في العصور الوسطى. والصهيونية والصليبية والشيوعية وأخيراً الاستعمار هي كلها متولدات واحدة عن الذهنية الاوروبية القروسطية والحديثة تحت مسميات مغشوشة للتصدير نحو الآخر، كثلاثية "الحرية والمساواة والاخاء" وشعار حقوق الانسان وحق تقرير المصير والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني وحق الأقليات.. وما إلى ذلك من شعارات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي قادتها نفس تلك الدول، حقاً على باطل. هذه الدول.. هي المسؤول الأول عن مجزرة غزة اليوم في شخص اتحادها الأوروبي الممول بأكثر من 90 بالمائة للفلسطينيين المحاصرين بين معاهدتين شائنتين للسلام ومعابر ضنكة في البر والبحر مع اسرائيل. أين الدول الراعية للسلام وأين الرباعية وأين الراعي الأول واتفاقات أوسلو ودايتون وأنابوليس وأين القرارات الدولية ذات الشرعية المتأرجحة والتى أصبح يلغي بعضها بعضاً بالتقادم والأمر الواقع؟ غزة اليوم المقاومة تختصر الفلسطينيين في الضفة وفي 48 وفي الشتات. وما هو مؤاخذ على قادتها اليوم كان بالأمس مؤاخذاً على فتح، وستؤاخذ به كل الفصائل إذا تعلقت يوماً بحبل السلطة لإدارة الصراع من أجل استرجاع ولو أضعف الحقوق. وفلسطين كلها بالمحاصر منها والمحتل والواقع تحت الحكم الاسرائيلي المباشر والمهجر في الشتات، تختصر العرب كلهم. فليس ولا دولة من دول العرب لا تشتكي من نفس حال الضغط الاجنبي على سلطتها كالسلطة في رام الله ولا واحد من أنظمتها يطلب السلامة لنفسه بانتخابات داخلية نزيهة ومحايدة وشفافة. لأن القوى الكبرى بزعامة المهيمن الأكبر على السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، أمريكا لا ترضى بغير وجودها الدائم في المنطقة ولو من خلال الصراع والتهديد. والزمن غير كفيل بحل المشكل ما داموا في حال القوة النووية والاقتصادية إلاّ لصالحهم وبالشكل الأعرج للآخرين. ومصر، كبرى الدولة العربية، التي كانت تحلم في كل عصر باقتضاء مركز الخلافة مرّة وبتوحيد الأمة العربية على حساب الاستقطابات الاسلامية المنافسة واستقلالات الدول المتذيلة للاستعمار الغربي أو للاقتصاد الغربي من أشقائها مشرقاً ومغرباً، فشلت سياستها القومية بكل المقاييس وتجرعت الأمرين من أجل حروب ترى أنها كابدتها وحدها من أجل كل العرب.. وفعل مثلها صدام عندما انكسرت أمام اسرائيل للقبول بمعاهدة سلام دائمة.. فلم يحصد مثلها إلا الندم قبل العدم، أو هكذا أرادت له العواصم المنافسة والأخرى الصغيرة الخاشية من صولته عليها. وسقط مفهوم الأخت الكبرى وعاصمة الحضارة العريقة ذات الآلاف السنين، أمام مفهوم دول الاقتصاد الصاعد والبترو دولار مهما تقزمت، ودول السيادة المحفوظة في سجلات الاممالمتحدة والاستقلال المحفوف برعاية الولاياتالمتحدة.. فلم يعد يهم مصر إلا نفسها في السلام مع اسرائيل. ومن شاء أن يحارب.. ربما شجعته على تجرع الأمر مما تجرّعته، لعله يعود إليها كما عاد صدام، وإن لم تسعفه وما بذل من أموال قبل نهايته الأخيرة. ومنطق مصر في أيام الحرب شبيه بمنطقها أيام السلم مع اختلاف الأسماء. وكذا كل نظام عربي.. فما كان يستنكره بالأمس أصبح يأخذ به اليوم أو يؤيده. وكل ينتقم لموقعه وعينه على غريمه بالأمس تحت مخلب عدوّه. والتعجيز مهنة قديمة في ظل التحالفات والتحديات. وكل إنسان في السلطة يلعب على أوراق بيده، وفي مقدمتها أوراق الضغط بكل مفاهيمه ووسائله.. لا فرق بين البعث وناصر وفتح وحماس والجهاد وعرفات وسعدات وحبش وغيره.. وليس بدعاً اعتقال الفلسطيين بعضهم لبعض، أو تقتيل بعضهم لبعض، فكل سلطة تعتقل من ينافسها، وكل صاحب سلطة يعتقل حتى ابن أمه ويحالف عدوّه عليه. وإذا كانت الأدوار في شرق أوسطي مهزوم أو في عالم عربي مخترق من كل الاتجاهات وفي عالم اسلامي مفكك الأوصال، هي سلطة مرتهنة للخارج ومعارضة مرتهنة للخارج أو للداخل وتظاهر سلمي ومسيرات واستنكار وتنديد وصراخ. وفي يوم ما يأخذ صاحب كل دور دور الآخر، فلا مخلص من الدور والتسلسل. وذلك ما يخدم جيّداً استراتيجيات الأعداء. وكل ذي عينين يرى أن وكل الحيثيات السياسية في الغرب تجد ظلها في العالم الخارجي، ولكن بشكل معوج كالصناعة المقلدة غشاً. ويظهر أن الدول العدوانية منذ الاستعمار وإلى اليوم وهي تصدّر بضاعاتها بأسماء الشهرة التجارية مع حفظ حق الامتياز للأصلح منها لديها إلى غيرها من الدول. فممن نطالب بحماية المدنيين وقت الحرب؟ هل الأسلحة الحديثة هي الأسلحة القديمة: منجنيق وأكباش وحصن وقلعة وجيش مكدس في ميمنة وميسرة وقلب؟ ومصر التي تزعمت الحرب ضد اسرائيل وفشلت، لا تريد وقد تزعمت السلام وإن هو خيار العاجز أن تفشل من جديد، لأن فشلها قد يوقعها من جديد في حرب لا تخرج منها وإلا وقد فقدت كل ريشها، باعتبار السلام الذي منحته إياها اسرائيل وأمريكا وأوروبا هو السلام المشروط، وليس الاختياري، ودورها المحسوب ولو مضخّماً للتأثير فيما حولها مدفوع الأجر سلفاً. والآلة الاعلامية الداخلية والخارجية في مصر وغيرها أصبحت لا تهلل إلاّ للاهتمام بالشأن الداخلي والتنمية الاقتصادية.. ومصر ترى ما في يد غيرها أولى به لتقوية نفسها أوّلا قبل كل مغامرة. وخدمة السلام أولى لها من كل خدمة. ولذلك فهي تنأى عن كل من يجرّها للاصطدام مع إسرائيل، باسم حماس أو حزب اللّه أو إيران أو الصومال أو ما شابه ذلك.. وربما دفعت بغيرها إلى اسرائيل ليجرب حظه إذا أكثر من إزعاجها في قوقعة السلام التي تحميها. فالعرب عامة دولاً بعد أن استردت زمام قيادتهم - ولو إلى حدّ - باسترجاع جامعتهم لديها، على النيل، لم يعد بمقدورهم الذهاب في مشروع حرب رسمي بدونها ويساعدها أن لا ينخطروا كلهم في تطبيع سلام رسمي، لما قد يفوّتها ذلك عليها من أوراق ضغط من اكتساب التفوق على الجميع، وابتزاز اسرائيل ما دامت في تفوق عسكري عليها. وتعرف اسرائيل أن المقاومة في شكل حماس أو في شكل فتح سابقاً كانت مموّلة كالقاعدة اليوم من جيوب كل من يناصبها العداء من أرباب البترول والدولار في المنطقة. لأن المبادئ لا تخدمها إلا الأموال. ولذلك فهي تعرف أن الإدانات والاستنكارات للأعمال الارهابية أو العدائية المنسوبة إلى هذا أو ذلك من الفصائل المسلحة، غير موثوق بصدقيتها مثلها مثل ورقة المفاوضات هنا وهناك وورقة بيروت الأصلية أو المعدلة. العنصر الوحيد الباقي بين السلام المفروض والحرب المرفوضة هو المقاومة. فهي مصدر ازعاج كبير لإسرائيل ومن وراءها، وهي مصممة على أن تصبح خبزها اليومي، بعد أن سقطت كل قرارات الشرعية الدولية، التي كانت تحرجها في السابق على استمرار احتلالها وتوسع استيطانها وانتعاش مطامحها فيما وراء النيل والفرات. ولذلك نرى اليوم "حماس" و" الجهاد" في صدارة المقاومة الفلسطينين، فلا يغيرها سقوطهما والاستبدال بهما قد يكسبها قوة أكثر . لأن الحق لا يسقطه التقادم والدم المسفوح شهيده ينطق بثأره مع كل أذان، حتى يؤخذ له فتطيب نفسه. ولا قوّة للمجتمع الدولي ولا لمجلس الأمن لشطب المقاومة من مشروعية الأممالمتحدة. وبذلك تبقى الانتفاضة هي الحل النهائي لقضية فلسطين والعرب والمسلمين وكافة أنصار الحق في العالم. وهذه الدول الثلاث الاروبية الكبرى المتفوقة بحق الفيتو وبالارهاب النووي الذي تحتازه، قد هزّتها اليوم سياساتها الغاشمة ، فهي تشاهد اقتصادياتها تنهار وماليتها تتدحرج إلى الحضيض، ولا تكاد تتحدث عن سلّم القيم لديها. فهو المؤسس لهذا الانهيار، لأن الاعتباري أخفى من المادي. وفي مقدمة تلك القيم منظومة حقوق الانسان، التي تحيّي في ستينيتها غزة المصابرة في ستينية الاحتلال، وهي تحت حميم القنابل. ولكن بغير تحية الغرب المخادع. غزة بوابة مصر والسلام الفلسطيني العربي الحقيقي وإن تلددت الأنظمة والحكومات عن التعبير عن ذلك. والمقاومة في عصر الانهيارات الاقتصادية والمالية والقيمية تبقى هي المخلص الوحيد من صناعها الأولين. م ك