قضايا الهويّة والدّين والدّولة والديموقراطية والحريّة وغيرها من الانشغالات المتجدّدة تبقى بحكم المرحلة وتحدّياتها وبحكم الإرث التاريخي وثقله محرار القياس لحيويّة النّخب وفاعليتها مهما سيطرت المواضيع التقنية المتّصلة بهواجس النّماء المادّي وأولويّة المعالجات الاقتصاديّة ليس غريبا عن تونس ثراء تجربة النّخب المجتهدة في هذا الاتجاه منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى حدود انصهار الطّموح الإصلاحي في مشروع سياسي واجتماعي تقدّمي وجريء جسّدته الدّولة الوطنيّة الناشئة غداة الاستقلال سنة 1956 أطلقت من خلاله عددا من الإجراءات التثويريّة النّادرة في محيط عربيّ أقصى نفسه عن ملْمَح التحّديث والتنوير فيما غامرت النخب التونسيّة مبكّرا بخوض معارك تحرير المرأة والمساواة والتعليم بشجاعة واقتدار من فهم أنّ طموح الإصلاح والتقدّم لا يمكن أن يمرّ الا عبر هذه البوّابات الرئيسيّة. لم ينقطع هذا الطّموح رغم تقلّب المسيرة لكنّه نجح في أن يصبغ هويّة النّخب التونسيّة بملمح الانفتاح والعقلنة بغضّ النّظر عن موقع اصطفافها الإيديولوجي أو السياسي، في السلطة كانت أم في المعارضة بل إنّ الوشم العقلاني انسحب على مجتمع بأكمله ليعطي للتونسي عموما روحا انفتاحيّة ووسطيّة وعقلانيّة تسعى للاستقرار كثابت من ثوابت شخصيّته الأساسيّة. أسمح لنفسي أن أطرح مجموعة من التّساؤلات والآراء التي تحتفظ لنفسها بالحقّ في الاختلاف المثري دون أن تدّعي إلماما بحقائق أو يقينيّات بل فقط من أجل إعلاء قيمة السّؤال النقدي ضمن مطارحة فكريّة لا تعنيها مطاردة الأهداف والغايات واصطياد المؤامرة الحقيقيّة أو المتخيّلة عبر هلوسات السياسة وتذاكي المختصّين في الرّصد والتقصّي للمعلن أو المسكوت عنه. الدّفاع عن قيم العلمنة واللاّئكيّة مبدأ شجاع بالنّظر لحالة الحصار الهادر التي فرضتها أفكار النّكوص والتطرّف الديني على مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة الواقعة في براثن سيطرة مُتراوحة بين المُعْلَنْ والثّاوي لنسق تفكير أحادي ديني مُغلق أشد خطورة واستحكام ممّا عرفته هذه المجتمعات حتى في تاريخها الوسيط. وتزداد الوضعيّة تعقدا مع تدخّل عوامل الضيم اللاّحق بالخيال الوطني وهو يتلظّى بفواجع فلسطين والعراق والإهانة الإمبرياليّة ممزوجة بعطالة أنساق التنمية الاقتصاديّة والسياسيّة منتهية إلى مزيد من الاحتراز والشكّ والضّبابيّة تجاه مفاهيم تنويريّة مهمّة مثل العلمانيّة وحتّى الديموقراطية وعقيدة حقوق الإنسان. شجاعة الطّرح لا تُغني عن تحكيم الاستفهام النّقدي حتّى ونحن ننافح من أجل أفق جديد لتحقّقنا الحضاري ضدّ الظلاميّة وأفكار التطرّف الدّيني، حتى ونحن في غمرة احتفائنا ودفاعنا عن العلمانيّة وضرورات فصل الدّين عن السياسة وإعلاء قيم المواطنة والمساواة والحريّة. أطرح السؤال على نفسي كعلماني مؤمن بقيم التقدّم قبل أن أطرح المساءلة على العقل الأصولي لأنّ المشروع الذي يهمّني نجاحه فأهديه أسئلتي هو مشروع التقدّم لا مشروع النّكوص. هل يمكن للعلمنة الوطنيّة، لنقل التونسيّة، العربيّة، الإسلامية أن تقفز على أسئلة الخصوصيّة الآتية من مناخ التّشابك والتعقيد التّاريخي لتشكّلنا، كمجتمع وكدولة، كعقل، كوعي، كتقاطع لالتباسات جمّة في التاريخ؟!! المطالبة بفصل الدّين عن السياسة أمر سهل ومشروع وبإمكاننا أن نكتب ونقدّم المبرّرات والتّنظيرات الكافية بإقناع أنفسنا كعلمانيين بشرعية المطلب ونبله لكن ما هو صعب هو طرح مشروعنا في الإقناع على محكّ النجاعة ليخرج من دائرة النخبويّة المعزولة ويصيب اهتماما وتفاعلا وتفهّما وتعاطفا وحماسا ضمن دائرة الفضاء العمومي التي يتشاطر الناس والنّخب تأثيثه. الخوف على المطلب العلماني، الان وهُنَا هو خَوْفٌ من أن يقع في تبسيطيّة ساذجة تحوّله إلى قوالب نظريّة ترتاح إلى مقولة العام والمطلق الصّالح لكل زمان ومكان ولا تعير قضايا النسبيّة والتركيب حقّها في فهم الظّواهر خاصة حين تلتصق بهموم التغيير الاجتماعي ولا تقتصر على حقل التهويم السّابح في التنظير والنظريّات. هل يمكن للمكافح العلمانيّ الآن وهنا أن يعي أن مطلب فصل الدّين عن السياسة لا يمنح أصحابه في بيئة ثقافية واجتماعية وسياسية مثل بيئتنا زرّا سحريّا قادرا بمجرّد الضّغط عليه أن يفرز بين الدّيني والسياسي فيرسم للّه حدوده ويعطي لقيصر حدود مملكته؟ لنعترف أن إرث أربعة عشر قرنا من إسلام ملحميّ بدأ نبيّه مرتجفا في غار لينتهي قائدا روحيّا وسياسيّا لدين ودولة ناشئتين في توقيت مُتزامنين في جزيرة العرب المُتوسّعة إلى أمّة مترامية الأطراف، إرث ثقيل ومعقّد كَمَنَ لنا في كلّ زاوية ومنعطف، في عقل التمثّل السياسي كما في عقل استبطان الوجود، في شكل القصيدة كما في وعي الحشود، في تفكير النّخب حول قضايا الكليّات كما في لائحة التصرّف في أبسط التفاصيل وأخطرها ليس أقلّها حياتنا الحميميّة في مخادعنا الجنسيّة، إرث ثقيل ومعقّد أجزم أن المسيحيّة لا تملك بمثل ما يملك ولا بقيّة المنظومات الدينيّة من ناحية القدرة على ابتلاع الوجود والوعي بالوجود، هذا الإرث بالذّات هو ما يجعل مطلب فصل الدّين عن السياسة، الآن وهنا من جهة الجديّة الفلسفيّة والسوسيولوجيّة عمليّة صعبة وشاقّة تزداد مشقّتها عندما يتغاضى أصحابها عن تضاريسها المعقّدة فيركنوا إلى المقولة البسيطة، المطمئنّة، السّعيدة بشجاعتها النخبويّة، وهي تعطي الانطباع بأنّها مهتمّة بإخراج النصّ ومعماره قبل نجاعة المشروع وتنزيله في مسْربه الحقيقي هُناك حيث عالم الناس. ما العمل أمام مجتمع مهووس بدينه؟!! لنطرح السّؤال بشجاعة، طيّب، جميل، ليس للعلمانيّة علاقة بالإلحاد، واللائكيّة ليست ولم تكن حربا على الدّين، لكن ما العمل إذا كان الدّين في صيغته الشعبيّة السّائدة وفي تأويلاته الأكثر رواجا وشيوعا حربا ورفضا وجزما ضدّ العلمانيّة وأفكار حريّة المعتقد والضّمير والتعبير المختلف؟!! الزرّ السحري العلمانيّ لن يقدر على فصل تلازم رسخ بقوّة التّاريخ والميثيولوجيا بين إسلام روحاني شخصي وإسلام عمليّ براغماتي متسرّب في كلّ ثنايا الوجود وأوّلها السياسة!!! لا يوجد في الإسلام نظام حكم، لم يحدّد النصّ المقدّس شكل الحكومة أو التداول أو ممارسة السلطة، هذه المقولات إضافة لصلوحيتها المهترئة في مواجهة سيميائيّة دلاليّة معقّدة لقضايا مخيال السلطة وممارستها في التجربة العربيّة الإسلامية لم تعد قادرة عن الإجابة على إشكالات اللوحة المعقّدة التي استوعبت كلّ التناقضات الممكنة لتتعايش معا مبدعة بانوراما ساحرة من التنوّع التيولوجي غير كامن فقط في التاريخ بل في النصّ المقدّس نفسه وهو يحتضن كل أنواع العلامات المتعايشة / المتناقضة: عُنف،/ تسامح، حريّة/عبوديّة، شدّة/تساهل، قتل/رحمة، إشباع/كبت، ذبح/حرمة الدم، ضمير إنساني/ردّة إلخ... المعركة شاقة وصعبة، خاسرة لا محالة إذا كانت أسلحتها بساطة الشعار ولذّة الاحتفال بالذات وفتوحاتها الشخصيّة لأنه أحيانا لا يهم ما نؤمن به نحن على صوابه وإيجابيته بل المهم ما يؤمن به الآخر خاصة إذا كان ناسا / حشودا / جموعا / أو شعبا بالمعنى الديموقراطي الحداثي للكلمة. على العلمانيين، أن يتسلّحوا في معركتهم الشاقّة بسلاح الخيال الذكيّ والمناورة الناجعة إذا أرادوا لطموحهم أن يخرج من حدود الصالونات النخبويّة للمجامع العقائديّة المغلقة، علينا طرح صياغة جديدة للموقف من الهويّة، لأنّ الاستهتار والتهاون في هذا الجانب بالذات هو ما يمنح الجموع لفائدة التطرّف الدّيني المعلن والثاوي، المنظّم حزبيّا أو الكامن في العقول والأرواح على طبق ملكيّ جاهز لتأثيث ولائم التطرّف والنّكوص. ليس لي أنا العلماني المؤمن بجدليّة القياسات حيث لعلمانيّتي قياساتها ولديني قياساته ولهويّتي بينهما قياساتها. ليس لي مشكلة في أن يكون الفصل الأوّل من الدّستور مضمّنا للتّأكيد أنّ دين الدّولة التونسيّة هو الإسلام وليس من مسؤولية المطلب العلماني الغاء خطّة الوظيفة الدينيّة في الدّولة وكأنّ هذه المطالب ستحلّ الإشكال اللاّئكي في مجتمعاتنا. أنا في الحقيقة لا أملك تصوّرا لا لشكل المعارك أو أسلحتها، ما هو واضح لديّ فقط هو التعقيد والغموض والالتباس، يبدو أنه علينا الاقتراب أكثر من الدّين بكامل علمانيتنا وعدم اللّعب بالنار الخطيرة الحارقة في استفزاز الهويّة والتّصادم معها باسم اندفاع لائكي ساذج، علينا بمَتْنٍ لائكيّ حيويّ، نسبيّ، نقديّ فطن إلى مخاطر إعادة إنتاج الأصولية في أزياء حداثية تحت لافتة مقاومة الأصوليّة، علينا أن ننتبه إلى دقّة الموازنة بين المعركة الشرعيّة والصّارمة والضّروريّة ضدّ كلّ أشكال التطرّف الدّيني مهما تَلوّنت والوقوع في فخّ استفزاز الهويّة وعقائد الجموع لأنّه بين الضفّتين تنشط جحافل من المتطرّفين المنشطرين إلى فرقتين، مُنسجمتين، مُتكاملتين: التطرّف الدّيني والمتاجرة بالعلمانيّة التي يمتهنها بعض المستثمرين الفاشلين في المعركة الشرعيّة والضروريّة ضدّ التطرّف الديني (دون التّقليل من شأن قطاع واسع من مثقفينا العلمانيين النيّرين)، أولئك الذين كسدت بضاعتهم وانتهت صلوحيتها وهم يلوون ما تبقّى لهم من عصير ونفير وشهيق وعفس ورفس وأحزمة (سفليّة بالأساس) تحت لافتة الدّفاع عن التّنوير ومكاسب التّحديث بالوشاية والتنكيد على خلق الله وقضاء الشّؤون بقناع بطل ورقيّ جسور أفنى حياته المديدة وفكره الخلاّق في الدّفاع عن الحداثة ضدّ أعدائها العلنيين والسريين. حدّثني فيلسوف تونس سليم دولة أنّه لمّا كتب صائفة العام الماضي نصّا فكريّا داعما للمقاومة اللبنانيّة في حربها ضدّ إسرائيل كتب أحد عساكر هذه الفرقة تقريرا عاجلا لمن يهمّه الأمر محذّرا من خطورة أفكار سليم دولة المتحوّلة إلى التطرّف الدّيني وقد اعتمد تقرير الإدانة الحداثي على حجّة بالغة دامغة وهي إيراد صاحب النصّ لجملة مُفادها: «الدّين أفيون الشّعوب، زفرة مخلوق مضطهد، روح عالم بلا روح» ثمّ ختم صاحب التقرير بجملة «هكذا تلاحظون معاليكم بأنّكم أمام (خوانجي) مُتطرّف خطير يتحدّث عن الدّين والمضطهدين»!!! طبعا تتواصل محنة فيلسوف تونس سليم دولة مع من يتّهمه بإفساد أخلاق الشّبيبة ومن يتّهمه بالتطرّف الدّيني لأنّه مواظب على اللّون الأسود في ملبسه لكن المثال المضحك/المبكي الأخير لقصّة من فهم مقولة ماركس بأنّها تأكيد لشبهة التطرّف الدّيني تؤكّد أنّ طريق الغايات النّبيلة لا تفسده سوى الجهالة والسّذاجة والتّبسيط.