يبدو أن قلبه لم يستحمل مشاهد القتل والدمار وجثث الاطفال التي بلغ عددها المئات، فتعرض إلى أزمة قلبية مفاجئة أنهت موسيقى النبض في جسده. أظن أنه التفسير الاقرب لموت المفكر المصري محمود أمين العالم خصوصا أن الرجل كما ذكرت ذلك بعض وكالات الانباء ومقالات التغطية الفورية، أرسل مقالة إلى صحيفة الاهرام قبل ساعات من وصول خبر وفاته. وإذا كان الراحل أمين العالم قد أصبح مكرسا في العقود الاخيرة بوصفه ناقدا أدبيا ومفكرا في الفلسفة، فإن تاريخه الطويل في النضال السياسي أكثر من مهم وجلب إليه احترام من حوله. فهو من رموز اليسار المصري وأحد أعمدة الحركة الشيوعية في مصر ومعروف بجرأته وبمواقفه النظيفة حيث أنه رفض الرضوخ للاغراءات ولمحاولات استقطاب النخبة السياسية في مصر أيام السادات عندما أدرك أن تلك المحاولات تستهدف مبادئه والثقة التي وضعها فيه شركاؤه في النضال وفي الافكار. وعلى مستوى القضايا العربية، فمن الصعب أن نتحدث عن مناهضي معاهدة السلام والصلح المصرية التي عقدها أنور السادات دون ذكر اسم محمود أمين العالم ذلك أنه عارضها بشدة ووجهت له آنذاك تهمة الخيانة العظمى وتمت محاكمته وهو الذي كان ساعتها في المنفى بحرمانه من حقوقه المدنية والسياسية. ومن يتأمل مواقف محمود أمين العالم ويستعرض تجارب الاعتقال التي دامت سنوات إضافة إلى التعذيب والضرب، يدرك جيدا أن كتابه الشهير"الانسان موقف" هو ترجمة لحياته ولمفهومه للوجود وللانسان حيث أنه يرى أن كل شيء زائف باستثناء الجوهر الحقيقي للانسان الذي ينتصر للانسانية وللحق وللقيم الصانعة للخير وللتطور. ولانه تبنى فكرة أن الانسان موقف أولا يكون، فإنه تم فصله عديد المرات من عمله في مرحلتي جمال عبد الناصر وأنور السادات واعتقل واضطر لخوض تجربة المنفى ودفع مقابل ذلك غربته وهو المفتون بمصر ثقافة وحضارة وعراقة. ولكن في نفس الوقت لا يمكننا أن نغفل عن نقطة مهمة وهي أن احترامه لنفسه ولفكرة أن الانسان موقف أولا وأخيرا قد فتحت له أبواب التقدير على مصراعيها من ذلك أن جاك بيرك دعاه إلى باريس وساعده كي يدرس في جامعاتها، فأقام في عاصمة الانوار أكثر من عقد كامل. ورغم أن الراحل قد توفي عن عمر يناهز 87 عاما، فإنه لم يكن تقليديا ولا متزمتا بل عُرف بحداثته وباتساع أفق مقاربته للامور وللافكار وللمدارس ونضاله في الحقل الادبي يشهد له بذلك، خصوصا دفاعه عن نظرية التفسير الواقعي للادب وأيضا مناصرته لقصيدة "النثر"، التي يعتبرها قصيدة المستقبل وذات جماليات شأنها في ذلك شأن فنون الشعر وجمالياته الاخرى. وإذا ما أردنا أن نستخلص عبرة من تجربة محمود أمين عالم في الحياة وفي السياسة وفي الفكر والادب، فإن العبرة الاقوى تتمثل في تواضعه الذي يغمره بك منذ تبادله عبارات التحية والسلام إضافة إلى مقاطعته للنفاق ولاصحاب الاطماع الشخصية الزائفة وتركيزه المباشر والمحدد على جانب القيمة والحقيقة الشيء الذي جعله يردد دائما بأن أفضل الاشخاص وأكثرهم فائدة لمجتمعاتهم وللانسانية هم الذين لم نتعرف إليهم ولم نكرمهم حيث أنهم آثروا الترفع والصمت والتواضع. وداعا محمود أمين العالم الذي لم يحتمل قلبه الهجوم على غزة وأطفالها ونسائها ورجالها. إن أغلب الظن أن أمين العالم هو أيضا من شهداء غزة.