لا يمكن أن نختزل معاناة أهل غزةبفلسطين وهم واقعون منذ أكثر من ثلاثة أسابيع بأيامها ولياليها تحت براثن عدو بشع وجبان لا يتوانى وهو متخف وراء عتاده العسكري المتطور والاشد فتكا عن قتل الصغير قبل الكبير لا يمكن أن نختزل هذه المعاناة في أوصاف ونعوت مهما اجتهدنا في محاولة وضع المصطلح الملائم لها ولوصف هذه المأساة غير المتوقفة منذ ثلاثة أسابيع طويلة. حرب ظالمة وغير متكافئة لم يتوقف فيها العدو الاسرائيلي عن قصف المواطنين الفلسطينيينبغزة في كل مكان وبمختلف أسلحة الدمار الشامل في عدوان يلوح وكأنه أبدي. ولكننا وإن كنا على بعد مسافة جغرافية كبيرة من هذه المأساة فإننا نعيشها لحظة بلحظة مع أهل غزة نعيشها ملء الجوارح حتى وإن ظن أهل غزة في عمق مأساتهم أنهم وحدهم في هذه المعاناة. وإن تسقط قنابل العدو بعيدا آلاف الاميال عن رؤوسنا فإن رسائله المسمومة تصلنا حتما. قد لا تقاس حالة الغضب الذي يتأجج في الملايين من العرب والمسلمين وقد لا تكون تلك الدماء التي تغلي كالمراجل في شرايين الملايين من المسلمين وهم يرون أطفال غزة ونساءها وشيوخها ورجالها يذبحون ويقتلون قد لا تقاس في شيء بتلك المعاناة التي يعيشها أهل غزة بساحة الحرب ولكننا دون شك لسنا إزاء ذلك في وضع المتفرجين. حالنا ليس بالهين ولا بالمريح... ورسائل العدو المسمومة قد وصلت. إن تفصلنا آلاف الاميال عن ساحة العدوان فإن رسائل العدو المسمومة تصلنا لا محالة يدرك هذا العدو الصهيوني جيدا أن الشعوب العربية والاسلامية ليست لها الكلمة الفصل في بلدانها لذلك فإنه لا يخيفه خروجها إلى الشوارع ولا يهمه إن كانت هذه الشعوب ترغي وتزبد بل هو يزيد في استفزازها مدركا أنها لن تستطيع بأي حال من الاحوال التأثير على قادتها ودفعها لاتخاذ موقف حاسم من هذا الكيان الصهيوني. تدرك اسرائيل جيدا ذلك وتتفنن في الفتك بالشعب الفلسطيني الاعزل متيقنة تماما أنها في مأمن من كل رد فعل قد يهددها. الاعلام الصهيوني الذي يؤيد بقوة ما تقوم به آلته العسكرية ضد شعب بلا سلاح ما فتئ يستهزئ بالموقف العربي الرسمي حتى أنهم صاروا يراهنون كلما وصل إليهم خبر عزم القادة العرب على الاجتماع يراهنون على نصوص البيانات التي سيخرج بها هؤلاء القادة والتي لن تتجاوز مسألة إعلان الاستنكار كالعادة. ومع ذلك فإن هذا العدو الذي عمل حسابا لاشياء كثيرة قد فاتته أشياء. لا نخال العدو الصهيوني كان ينوي في يوم من الايام أن يقدم هدية للشعوب العربية. لكن ما رأيه أنه بهذا العدوان الغاشم على غزة قد قدم لها هدية بدون أن يعملوا حسابا لذلك. اعتذارنا كبير لاهل غزة الذين دفعوا الثمن باهظا كي تتفطن الامة العربية والاسلامية أنها مستهدفة ومتربص بها وأن أعداءها لا يريدونها أن تنهض أبدا. اعتذارنا لاهل غزة حيث لم يقدر أغلبنا على أكثر من الدعوات بالنصر وعلى الدموع كوسائل لمساندتهم في هذه المحنة وهذا المصاب الكبير وهم يقدمون أنفسهم قرابين. إن هذا المصاب الجلل الذي تعيشه غزة منذ أيام طويلة ومن ورائها الشعوب العربية والاسلامية ومنها من خرج للشارع يصرخ ومنها من بقي كاظما لغيظه ومنها من بلغ منه الغضب درجة قصوى إلخ... يحمل في رحمه ما هو إيجابي. قد لا نرى ذلك بشكل مباشر وصريح ولكن نقرأه من خلال مجموعة من المعطيات التي ترجح هذا الامر. كدنا ننسى أن هناك قضية اسمها فلسطين إزاء تفشي داء اسمه الاعتراف بإسرائيل قبل معركة غزة. كانت الامور تبدو ضبابية وكدنا نحن العرب أن ننسى قضية اسمها فلسطين في خضم تفشي داء اسمه الاعتراف باسرائيل والتعامل معها. الاكيد أن الكثيرين من العرب والمسلمين كانوا قبل انطلاق العدوان على غزة قد تلهوا عن القضية مختزلين الامر في صراع فلسطيني داخلي صراع هدفه السلطة. لم نرى على امتداد حوالي عامين من الحصار الخانق على غزة أية حركة جدية لوقف الحصار وقد صار العرب يقتادون للقبول بسياسة أمر الواقع. لقد تم في السابق تجويع الشعب العراقي ليكون بعد مناورات عديدة فريسة سهلة للترسانة العسكرية الامريكية. ثم تم الالتفاف حول النصر الذي حققته المقاومة اللبنانية في صدها للهجمة الاسرائيلية سنة 2006 كي يقع تكريس عقدة العجز إزاء الترسانة العسكرية الصهيونية بعد أن بدأت تظهر بوادر تشير إلى أن هذا العدو يمكن كسر شوكته. تهيأ فيما بعد للكيان الصهيوني أنه جمع ما يكفي من الدعم السياسي وحشد ما يكفي من الذخيرة الحربية لانهاء مسألة غزة في هجمة قاضية تعتمد على الغدر والمباغتة. اليوم يدفع بالفعل الشعب الفلسطيني الثمن باهظا. ولكن اسرائيل خسرت الكثير في هذه الحرب وأبرز هذه الخسائر إنهاء الانقسام على مستوى الشعوب العربية والتوحد حول فهم ماهية اسرائيل الحقيقية. لا ننكر أن الحرب الاولى والثانية على العراق قد أحدثت شرخا بين الشعوب العربية أي بين أنصار العراق وبين أنصار الكويت. اليوم لا نستطيع القول أن هناك اختلافات كبيرة بين الشارع الكويتي والشارع المغربي مثلا وبين الشارع في البحرين وبين مانراه بالجزائر أو موريتانيا واليمن ومصر ولا اختلافات كبيرة بين رأي التونسي والقطري ومختلف الشعوب العربية في كيفية التصدي للكيان الاسرائيلي. لقد وحدت صور أجساد الاطفال الممزقة في غزة بين الشعوب العربية وقالت هذه الشعوب كلمتها حول التعامل مع الكيان الاسرائيلي. إنها انتفاضة شعبية عربية أقسمت أغلظ الايمان أنها لن تقبل بأقل من أن يستعيد الشعب الفلسطيني حقه بالكامل، استعادة أراضيه وبناء دولته الحرة رغم أنف الكيان الصهيوني. لقد صبرت الشعوب العربية والاسلامية على اسرائيل كثيرا لكن صبرها اليوم بات محسوبا. ولا ينبغي أن نستهين بغضب الشعوب حتى ولو أن الكيان الصهيوني لا يضع في اعتباره كلمة الشعوب العربية. لقد وحدت دماء الفلسطينيين في غزة صف الشعوب العربية ومنحتها المقاومة في لبنان سببا من أسباب استرداد كرامتها وها هي المقاومة بغزة تسير على نهجها والآتي أفضل دون شك. لا يمكن أن نقول أن الشيء ذاته قد حصل وأن غزة قد وحدت القادة العرب. ولكن لعل ما يلوح لنا اليوم انقساما بين القادة العرب لعله يكون بداية عهد جديد. فماذا كنا نجني كلما اندلعت مأساة على أرض عربية والتأمت قمة عربية هنا وهناك بحضور جميع القيادات. لا يمكن أن نقول أننا جنينا الشيء الكثير على ما نذكر.