"لست زعيم قبيلة...انا رئيس وزراء تركيا وقد قمت بما كان يتعين علي القيام به"... بهذه الكلمات الغاضبة خاطب رجب طيب اردوغان حشود الصحافيين الذين تجمعوا حوله وهو يعلن انسحابه من مؤتمر "دافوس" احتجاجا على مصادرة حقه في الرد على الادعاءات المطولة للرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز في تبريره للعدوان الاسرائيلي على غزة بما اثار بالتاكيد غيرة الكثيرين ممن تابعوا الحادثة في عالمنا العربي ولكن ايضا بما زاد في احترامهم للمواقف الجريئة التي ما انفكت تركيا وهي التي ترتبط بعلاقات عسكرية وسياسية متينة مع امريكا واسرائيل تجاهر وتتمسك بها وهي ذات المواقف التي تطلعت اليها وانتظرتها الاوساط الشعبية العربية المحبطة منذ اللحظات الاولى لانطلاق العدوان على غزة في مختلف العواصم العربية ولكنها فوجئت بها تاتي من كاراكاس وليما وانقرة ثم مدريد واوسلو... تحت انظار الامين العام لجامعة الدول العربية الذي يجد نفسه من جديد في موقع لا يحسد عليه وفي حضور الامين العام للامم المتحدة وغيره من الزعماء والمسؤولين الاوروبيين انتفض رجب طيب اردوغان ليعلن في موقف نادر مقاطعته اشغال المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس وهو يوجه اصابع الاتهام الى الرئيس الاسرائيلي مرددا بلهجة لم يسبقه اليها احد من المسؤولين العرب " اعلم كيف تقتلون الاطفال والنساء على الشواطئ"... وبعيدا عن الوقوع في متاهات القراءات والدوافع والاسباب التي تسابق اليها الكثيرون في محاولة لرصد ابعاد مجاهرة اردوغان بهذا الموقف وهو الذي يعلم انه قد يضطر لدفع ثمن باهظ لذلك وسواء تعلق الامر بحسابات شخصية او بحرص اردوغان على تعزيز شعبيته في الاوساط التركية او كذلك بالبحث عن موقع اقليمي جديد لتركيا في المنطقة فان الرسالة التي حملها رئيس الوزراء التركي كانت واضحة وهو ان احترام الاعداء والاصدقاء على حد سواء لا يتحقق بالاستجداء والمهادنة الى درجة التذلّل... طبعا لا احد يتوقع ان تذهب تركيا الى حد قطع علاقاتها باسرائيل وهي تشاهد دولا عربية تحرص على استمرار علاقاتها مع الدولة العبرية ولكن الارجح ان تركيا اختارت بمواقفها الواضحة في مجلس الامن الدولي وفي دافوس ان تصدع بما يتعين عليها قوله فضمنت بذلك الرسالة المطلوبة. ورغم تظاهر بيريز بعدم الاكتراث بالموقف التركي فان الاكيد ان الساحة الاسرائيلية الحريصة بدورها على علاقاتها الاستراتيجية مع احدى اكبر الدول الاسلامية قد اهتزت للحادثة. قبل ساعات فقط على حادثة اردوغان كان القاضي الاسباني فرناندو اندرو يعلن بدوره موافقة القضاء الاسباني على فتح تحقيق بشان ستة من المسؤولين العسكريين الاسرائيليين بينهم وزير الحرب الاسرائيلي الاسبق بنيامين بن اليعازر بشان التورط في ارتكاب جرائم حرب خلال قصف غزة سنة 2002. وقد كشفت حالة الهستيريا في صفوف المسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين التي احدثتها الدعوى الاسبانية مدى حساسية الاسرائيليين ازاء هذه المسالة.و لاشك ان في ردود الفعل المسجلة من جانب اثنين من المترشحين للانتخابات الاسرائيلية ايهود باراك وتسيبي ليفني وتعهداتهما باجهاض كل محاولة لملاحقة المتهمين الاسرائيليين فضلا عن المساعي الحثيثة لاستباق الاحداث والتعتيم على اسماء الجنود والضباط المتورطين في الحرب على غزة ما يعكس اعترافا ضمنيا بمختلف الجرائم الاسرائيلية الموثقة. ولعله من المفيد التذكير في هذه المرحلة بان في تلك التحركات والمواقف المسجلة من النرويج الى تركيا واسبانيا ما يعد خطوة مهمة لا يستهان بها مستقبلا في ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين ولكنها خطوة سوف تحتاج الى خطوات اخرى اكثر اصرارا وجراة وحزما من جانب عديد المنظمات والهيئات الانسانية والحقوقية الدولية والاقليمية والوطنية.