من منا لم تأسره شخصية مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ولم يستغرق في التفكير طويلا وعميقا في مصيره المجهول والمنفتح على أكثر من سيناريو؟ أغلب الظن أن جميع القراء وقعوا في شباك هذا الكائن الروائي الغريب الأطوار والمتقلب الحالات. إنه كائن من صنيع الروائي الراحل الطيب صالح، الذي غادرنا منذ أيام تاركا وراءه عطشا متواصلا نحو كائناته الروائية ونهما لم يُشبع بعد لعوالمه المحبكة والعميقة والبسيطة. فهو روائي من قماش حريري أصيل، يُبهرك إنسانا ومبدعا ويشكل في حد ذاته تجربة رائدة في فن الرواية ونموذجا نادرا بالنسبة إلى الكيفية التي مارس بها الحياة وواجه تقلباتها وإغراءاتها. وعلاوة على أنه تُحسب له تلك النقلة النوعية التي حمل فيها السرد العربي إلى عوالم الشرق والغرب من خلال المزج الخاص، حيث ساهم في إثراء مضامين النص الروائي العربي باعتماد نهج جديد والتطرق إلى إشكاليات جديدة، فإن الراحل الطيب صالح كان يتمتع بعدة خصال استثنائية،تُؤكد علاقته الإبداعية بنفسه وبالآخر وبالحياة أي أنه كان مثال المبدع المختلف والمتواضع والزاهد والحقيقي والعميق. ولقد كان لي شرف الالتقاء به في نفس المناسبة الأدبية في الجزائر عام 1999، عندما نظمت اليونسكو تظاهرة شعرية روائية احتفالا بعودة الجزائر إلى الحياة وإلى الانفتاح بعد فترة حالكة أصطلح على وصفها ب"العشرية السوداء" ودعت فيها مجموعة من الشعراء والروائيين على رأسهم الطيب صالح ومن بينهم جمال الغيطاني ومحمد بنيس وسيف الرحبي وهدى أبلان وكاتبة هذه الأسطر... اللافت فيه صامته الطويل وترفعه على كل المظاهر ذات البريق، الشيء الذي يجعلك تراه أكبر ألف مرة من قيمته الكبيرة. لذلك فإن الطيب صالح لم يقدم فقط نصوصا جميلة ومهمة، بل أيضا قدم صورة مشرقة للمبدع المخلص لنفسه ولنصه والذي لا يذكر غيره من المبدعين إلا بكل خير ويتعاطى باحترام مع صاحب القدم الراسخة في الإبداع وأيضا الذي لا يزال في طور الحبو. كما أن الحديث معه، يزيد في تقربك منه إذ تطغى الأسئلة في كلامه على المسلمات ولديه قدرة عجيبة وموفقة على الجمع بين إبداعات العهد الجاهلي وروائع الحضارة الأموية والعباسية وفي نفس الوقت يتلذذ ويهضم بشكل جيد إبداعات الغرب وتحديدا الإبداع الأدبي الانقليزي.بمعنى آخر للرجل علاقات مباشرة مع الإبداع بلفت النظر عن منتجه وزمنه وسياقه وموطنه وهي خصلة لا يتمتع بها سوى المبدع المخلص الذي لا يستطيع أن يحجب نظره عن أي حقيقة إبداعية أو تجاهلها. وللقراء في تونس والنخبة النقدية والفكرية احترام خاص لتجربة الطيب صالح، فهو الذي زارنا مرات والجامعة التونسية لم تدخر جهدا في مقاربة أعماله من خلال تخصيص أطروحات جامعية في مستوى الماجستير والدكتوراه. كذلك أصدرت له دار الجنوب في إطار سلسلة "عيون معاصرة" روايته "موسم الهجرة إلى الشمال". من هذا المنطلق ونظرا إلى هذا التاريخ العريق من العلاقة الطيبة مع الطيب صالح،نعتقد أنه من حقه علينا التكريم وإحياء أربعينيته حتى ولو كان الوقت ضيقا وأحداثنا الثقافية في العام الجاري كثيرة. ذلك أن قيمة الرجل ومكانته تستوجب منا الاهتمام وتوجيه لفتة كريمة إلى روحه النائمة الآن في أرض السودان التي غادرها شابا لم يقفل الربع قرن من عمره وعاد إليها ليدفن فيها بعد غربة طويلة في انقلترا حاملا خلاصة رحلته من بلاد الشمس الحارقة إلى عاصمة الضباب الكثيف. إنه من حق مصطفى سعيد علينا أن تنتظم جلسة أدبية تليق بصانعه الطيب صالح وذلك وفاء لمبدع تجاوز بلده السودان فكان عربيا... حتى الشمال.