رغم أن رحلة الوصول من تونس إلى واشنطن مضنية جدا إضافة إلى فارق التوقيت (ست ساعات) الذي يُهلك الجسد، فإن كل ذلك سرعان ما يصبح أمرا ثانويا لا قيمة له مقارنة بثراء التجربة ذاتها ودلالة الحدث وتوقيته وآفاقه المشرعة. ومن حسن الحظ فقد استقبلتنا ولاية واشنطنالأمريكية بالجو المنعش والدفء الربيعي المحبب إلى النفس والجسد، فزادت قناعتنا شعراء وروائيين بأن شروط المصالحة مع هذا البلد ربما تكون في طور التحقق.فكل واحد منا كان يحمل أسئلة وقلقا بل وحتى حواجز نفسية:كيف سيكون اللقاء مع الجمهور الأمريكي وإلى أي حد يمتلك الاستعداد لتجاوز أحداث 11سبتمبر والتعاطي معنا كعرب مبدعين لهم مقولاتهم في الفن والحب والحياة والخير والجمال والحس الإنساني العميق؟ طُرحت هذه الأسئلة جهرا وسرا ولكن بقلق خافت، باعتبار أن إقامة مهرجان ضخم خاص بالفن والأدب العربيين قد تزامن مع تسلم باراك أوباما الحكم وهو الرجل الذي زرع في العالم بذور التفاؤل من أجل عهد جديد مع الولاياتالمتحدة.ذلك العهد الذي تلمسه خصوصا في سلوك السود الذين يبدون في غاية الابتهاج والشموخ وهي حالات تلقطها في المطاعم وفي الشوارع وأينما تجدهم وكأن أوباما أهدى إلى كل واحد فيهم رئة جديدة يتنفسون بها ثقة وطموحا. إذن ليس من باب الصدفة أن يقرر مركز جون كينيدي الثقافي إقامة مهرجان ضخم حول العالم في هذا التوقيت وهو المركز الأكثر شهرة في الولاياتالمتحدة وفي العالم ويعقد كل سنتين مهرجانا كبيرا خاصا بحضارة معينة. في السنوات الأربع الأخيرة اهتم بحضارتي الصين واليابان وفي هذا العام وقع الاختيار على الحضارة العربية فكانت في الموعد موسيقى وشعرا وسينما ومسرحا وأدبا ونقاشات. ولعله من المهم أن نشير إلى أن مركز جون كينيدي يحظى بقيمة خاصة لدى الأمريكيين، بل إن أي عمل فني وثقافي يتبناه هذا المركز هو ضمان جودة مسبقة بالنسبة إليهم. وفي الحقيقة ما إن تقع العين على هذا المركز الضخم والفسيح جدا حتى تستشعر أهمية الفضاء الذي تم افتتاحه عام 1971يتصدره عند المدخل نصب تذكاري لجون كينيدي المعروف بإيمانه أن الإنجازات الثقافية هي جزء لا يتجزأ من الخبرة البشرية. إن مركز جون كينيدي الذي يستضيف سنويا ثلاثة ملايين زائر ويقدم أكثر من ألفي عمل في عام، اختار أن تهيمن النقاشات على الفعاليات الأدبية للمهرجان فكان حضورنا للقراءات الشعرية والسردية ولكن في المقام الأول للتحاور والنقاش والخوض في مواضيع شتى على غرار مفهوم الهوية لدى الأديب العربي وكيفية توظيف الخيال والفانتازيا في الكتابة وأيضا كيف تكتب المبدعة الرجل وصورة المرأة في كتابات الأديب العربي ومدى تصوير أدبنا لواقع المجتمعات العربية وحال القراءة والنشر في ربوعنا. والمدهش أن الحضور الأمريكي كان غفيرا وفي جميع الجلسات دون استثناء، فكانوا ينصتون بعطش إلى ما نقوله ثم يقتصرون على بعض الأسئلة والتعليقات المليئة بالاعتراف بأنهم بصدد اكتشاف جوانب جديدة بل إن شدة تعطشهم للتعرف إلينا وفضولهم للاستماع إلى أفكارنا وكيف نُقارب الأسئلة الفنية والوجودية والثقافية وربما هذا السبب الذي جعل المنظمين لا يقتصرون فقط على القراءات الشعرية والإبداعية، وإنما كان التركيز الأكبر على الشهادات الإبداعية والمداخلات التي كان جميعها يجمع بين العام في الأدب العربي والخاص في تجربة كل مبدع متحدث. وإلى جانب اكتشاف إلى أي حد يبدو الأمريكيين اليوم معنيين بالتعرف إلى العالم العربي من خلال أدبائه ومبدعيه،فإن ما شكل بالنسبة إلينا إضافة خاصة خصوصا بالنسبة إلى الكتاب الذين يزورون مثلي الولاياتالمتحدة لأول مرة ، هي تلك اللهفة لمعرفة الثقافة العربية قديما وحديثا واحترامهم للمختلف ولما هو مغاير فتراهم بعد انقضاء كل جلسة أدبية صباحية أو مسائية يتهافتون علينا للتعبير عن إعجابهم بما استمعوا إليه من مداخلات وقراءات ويسألون أين يمكن أن يجدوا مجموعاتنا ورواياتنا . من جهة أخرى سجل الأدباء الأمريكيون من أصل عربي حضورا لافتا فكانوا بالفعل همزة وصل وجبهة ثقافية هامة تقوم بدور كبير في ترجمة أعمال عربية وفي التعريف بها وهم في أغلبهم يُدّرسون الأدب العربي في جامعات أمريكية. وبعد هذه التجربة القصيرة والغنية في آن، عدت مجددة قناعتي بالدور الذي يمكن أن تقوم به الثقافة من أجل تقديم الصورة اللائقة بالحضارة العربية الموغلة في القدم والراسخة في التاريخ.ولكن من المهم أن نتحلى بالوعي وأن يبذل النظام العربي الرسمي الجهود اللازمة في الترجمة وفي فتح قنوات نحو الآخر حتى يتعرف إلى حقيقتنا وهي نقية من كل الشوائب. فالواضح أن الشعب الأمريكي متعطش إلينا وإلى فنوننا وهو ما يبرر الحضور الغفير في الجلسات الأدبية العشر التي نظمها مركز جون كينيدي في مسارحه الكبيرة والأنيقة والكثيرة ( مسرح الأسرة ومسرح أيزنهاور ومسرح الألفية ومسرح الشرفة...) ونحن في المقابل كأصحاب حضارة عريقة لديها ما تقول وما تبلغه للإنسانية جمعاء من جمال ومن مساهمة قديمة ومتجددة ومعاصرة في رفعة الروح الإنسانية من الذكاء أن نستثمر هذه الفرص المهمة وتوظيفها لصالح الأمة العربية. أقول هذا الكلام لأن مهرجان العالم العربي في مركز كينيدي بواشنطن ليس أكثر من بداية وشمعة مضيئة في ظلام دامس من الجهل الثقافي والإنساني المتبادل بين العرب والأمريكيين.فالحل سياسي بالأساس أو لنقل الانفراج السياسي في القضية الفلسطينية مكمن العقدة هو المفتاح الأول لإزالة الحواجز نفسية كانت أم سياسية. وإلى ذلك الحين الذي يسترد الطفل الفلسطيني (الذي لم يكن غائبا في نقاشاتنا) ابتسامته المفقودة منذ عام 1948 فإن المنطق يستدعي منا العمل والايجابية المدروسة والواعية بمختلف الأبعاد وأن نراهن على الروابط الثقافية في تقديم حقيقتنا إلى المجتمع الأمريكي وغيره من خلال الفن والأدب والفكر. وإذا ما تراكم تأثيرنا الثقافي في بلد الشعب فيه هو الحاكم الفعلي، فإن الانفراج آت لا محالة حتى ولو تأخر كثيرا ورغم أنف مكر السياسة وبطشها وميزان المصالح الذي يمكن أن ينقلب لو عرفنا كيف نفعل ذلك وكيف ننتصر لحضارتنا العريقة ولقيم ديننا التي تلحظها في كل شعب متحضر مما يقوي القناعة بأن قيم الدين الإسلامي هي جوهر مقولات التحضر والتقدم والحرية وهدفها الأول والأخير رفعة الروح الإنسانية التي أعتقد أنها سبب الوجود وعلته.