هذا المقال ليس دراسة متكاملة حول الجمهورية في تونس بل محاولة الاجابة عن اشكالية الانتقال في تونس عن نظام ملكي فقد شرعيته الى نظام جديد سمي بالجمهورية وهو تساؤل كذلك عن مصداقية النظام الجمهوري في العهد البورقيبي ومحاولة الكشف عن توافق ذاك النظام مع معرفات الجمهورية كما عرفتها انظمة الحكم في أمريكا وفي الغرب عامة. I) سقوط الملكية كانت صلوحيات المجلس التأدسيسي المنتخب في 25 مارس 1956 والمجتمع في 8 أفريل حسب ما حدده الامر العلي الصادر في 29 ديسمبر 1955 تقتصر على وضع دستور للبلاد في اطار النظام الملكي القائم فحسب لكن اعضاء المجلس مدفوعون بوعيهم بتمثيلهم للسيادة الحقيقية سوف لن يلتزموا بذلك وتجاوزوا الامر لإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 . ولنترك الكلام للزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يرأس آنذاك المجلس التأسيسي يشرح حيثيات هذا القرار- وهو على حق في خطابه أمام المجلس. 1 - احترمنا (الوطنيون) لحد الآن الملك لانه لم يكن لنا اختيار آخر الا إحترام هذه المؤسسة لانها كانت نظريا تجسد الدولة التونسية واستمراريتها. 2 - إن الدولة الفتية لا يمكن أن تقبل على رأسها شخصا (الأمين باي) يفتقد خصال القيادة أو يستحق الاحترام. 3 - العائلة الحسينية ليست أهلا للحكم لأنها لا تفهم الحكم على أنه وظيفة اجتماعية مسخرة لفائدة الشعب بل أن الشعب مسخر لإرضاء غائب أفرادها. 4 - لا نجد على رأس الدولة الا من يجسم الجهل والوهم والخرافات والعجز ولا أمل في اصلاح الامراء الحسينيين 5 - فساد العائلة الحاكمة واعتقاد ابنائها راسخا أنهم «جبلوا من طنة اسمى وأرفع من طينة الشعب «فهم يعيشون من عرق جباهنا ويسيئون التصرف في حقوقنا ثم يحتقروننا». 6 - إن ملوك تونس خانوا القضية التونسية من الصادق باي الى الامين الباي الا واحدا (المنصف باي) 7- ان التسلط والاضطهاد الذي مارسه الاستعمار ضد الوطنيين كان يمر عبر قوانين وأوامر تصدر عن البايات الحسينيين. 8 - ان العائلة الحاكمة والأمين باي بالذات تواطأ مع الاستعمار في الخمسينات (منذ أواخر 1952) عكس ملك المغرب (محمد الخامس) الذي صمد وخيّر فقدان عرشه ونفيه على خيانة وطنه. 9- ان الباي وعائلته راهنوا على صالح بن يوسف (منافس بورقيبة) ليدوموا في السلطة. 10- ان الشعب التونسي بلغ من النضج درجة تخوله تسيير نفسه بنفسه والتلخص من أي عائلة حاكمة هكذا اذا كان التصويت باجماع الحاضرين من النواب في المجلس التأسيس عن الغاء الملكية واعلان الجمهورية واختيار بورقيبة أول رئيس لها وطويت صفحة في تاريخ تونس يوم 25 جويلية 1957 لتبدأ صفحة أخرى كلها أمل وتوق للحرية. II) جمهورية بورقيبة هل كانت جمهورية؟ نذكر أن الجمهورية هي نمط معين لتنظيم الدولة ولنظام الحكم يكون رئيس الدولة فيه منتخبا عكس الوراثة في النظام الملكي وتقوم الجمهورية على مقومات معرّفة ثلاث وهي السيادة واللائكية وحقوق الانسان اذ لا جمهورية بدون ديمقراطية وبدون مشاركة شعبية في السلطة ومراقبتها ومحاسبتها فهي ذاك «النظام الذي يسمح فيه للشعب بممارسة رقابة مباشرة او غير مباشرة على حكومته» حسب عبارة جيمس مادشون أب الدستور الامريكي . فأين نظام بورقيبة من هذه المعرّفات؟ على مستوى الدولة تحقق منذ الاستقلال عديد الانجازات على مستوى المؤسسات وعلى مستوى القانون يمكن اجمالها في: = انتخاب مجلس تأسيس أصبح لاحقا مجلسا تمثيليا يجسد الى حد ما السيادة الشعبية وهو في حد ذاته انتصار لمطلب رفعته الحركة الوطنية منذ عشرينات القرن الماضي. - وضع دستور للبلاد (1 جوان 1959) وهو نص لا يقل قيمة ولا ديمقراطية عن بقية الدساتير المعتمدة في أكبر الدول الديمقراطية في العالم فهو يؤكد على أن الشعب التونسي هو صاحب السيادة (الفصل 3) ويقر في بابه الاول ويضمن كل الحريات المعرّفة للانظمة الديمقراطية : حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات وحرية المعتقد ويضمن الحق النقابي وحرمة المسكن وسرية المراسلة وحق الملكية كما يقر الدستور المساواة أمام القانون ويمنح كل المواطنين حق المشاركة في السلطة مباشرة أو غير مباشرة باقراره حق الترشح وحق الانتخاب في كل مستويات السلطة في الجهاز العلوي او السفلي للادارة السياسية للوطن.. وهو كذلك يقر التمثيل الديمقراطي عبر الاختيار الحر والمباشر في البرلمان وكذلك لرئيس الجمهورية. مع اقرار فصل السلط الثلاث. كما أنه حتى وإن لم تعلن لائكية الدولة صراحة فإن القوانين والتشريعات كان ذات صبغة لائكية وحيّد الدين من الشأن السياسي والغيت المحاكم الشرعية. - اعلان النظام الجمهوري واعتماد النظام الرئاسي غير أن هذه الواجهة الجمهورية ناقضها الواقع وممارسة الحكم في العهد البورقيبي في السمات التالية: - أفرغت كثير من الحريات التي ضمنها الدستور من محتواها اذ كانت الفصول تنص على أن «ممارستها تكون حسب ما يضبطه القانون» فوضعت قوانين عدة خارقة للدستور ومناقضة لنصه خاصة وأن البلاد كانت دون مجلس دستوري حتى 18 ديسمبر 1987 . - تحول النظام الرئاسي الى نظام رئاسوي محوره الرئيس الحبيب بورقيبة وهو حكم فردي استبدادي طغى على بقية المؤسسات واخضعها لمشيئته. - انحراف عن مبادئ الجمهورية: في مستويات عدة اذ لم يحترم مبدأ السيادة الشعبية لأن الانتخابات كانت صورية ودون مشاركة أو منافسة فعلية وحتى عندما سمح للحزب الواحد بمن ينافسه زورت الانتخابات (1981) كذلك في مستوى احترام الحريات السياسية كان التقييد ومصادرة الحريات هو القاعدة أن كان من القوانين المنظمة للحياة العامة أو في مستوى الممارسة. كما دجن المجتمع المدني وفقد استقلاليته وتحولت المنظمات الجماهيرية الى أطر تعبئة وتجنيد يملؤها الانتهازيون والمتملقون. كما لم يحترم مبدأ فصل السلط وكانت السلطة التنفيذية هي الطاغية وتحول البرلمان «حجرة» تسجيل للقوانين ومورد ارتزاق بالنسبة للبعض ومكافأت بالنسبة للبعض الآخر» حسب عبارة أحمد التليلي. كما أخضعت السلطة القضائية وخاصة القضاء السياسي لمشيئة الرئيس والسلطة التنفيذية. - وكان منح بورقيبة سنة 1975 باقتراح منه - حق الرئاسة مدى الحياة مسمارا آخر في نعش الجمهورية المعلنة سنة 1957 . هل يعني هذا ان الحكم في العهد البورقيبي كان نقيضا مطلقا للجمهورية أو لمصلحة الوطن؟: كلا III) جمهورية بورقيبة ليست جمهورية لكن خدمت الوطن ان جمهورية بورقيبة رغم ما ينتقد فيها من استبداد فردي وتضييق على الحريات وافراغ المؤسسات من مضمونها وتهميش للارادة العامة وتعد على الدستور وتسطيح للثقافة السياسية فإن الحكم فيها أقحم البلاد والمجتمع في روح العصر وعكس الملكية وحكم البايات احسنت الدولة البورقيبية عموما التصرف في الثروة الوطنية ووظفتها لصالح الوطن بنشر التغطية الصحية وتعميم التعليم وتحديثه وتطوير الاقتصاد والبنى التحتية وتجديد الثقافة وتحديث المجتمع ومواصلة القضاء على الهياكل التنظيمية القديمة المعرقلة للتقدم والتي كان يقوم عليها حكم البايات من عروشية وقبلية وولاءات عائلية وجهوية وثرائية والحد من ظواهر المحسوبية والرشوة والتمييز حيث خرجت تونس بفضل بورقيبة ومن معه من حكم العمائم والتمائم وأعلت راية العلم والعقل ولازال لا محالة الطريق طويلا أمام البلاد وأمام الجمهورية والناس يُحكمون بما هم يستحقون. (*) أستاذ بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية